تجسد الله
مـنـتـديـات الـمســيح هــو الله :: † المنتديات الحياة المسيحية † :: منتدى الاسئلة الاهوتية و العقائدية المسيحية
صفحة 1 من اصل 1
تجسد الله
التجسّد
جواباً على السؤال: «كيف صار المسيح إنساناً وهو ابن اللّه؟» يجيب الكتاب المختصر لأصول الإِيمان: «إن
المسيح ابن اللّه صار إنساناً باتّخاذه
لنفسه جسداً حقيقياً ونفساً عاقلة، إذ
حُبل به بقوة الروح القدس في رحم مريم
العذراء، ووُلد منها ولكن دون خطية».
خُلق
الإِنسان، خلافاً لكل الحيوانات، على
صورة اللّه، وأُعطي طبيعة روحية وعقلية
ونفساً حية. يقول الرسول بولس إن اللّه « لَيْسَ بَعِيداً. لأنَّنَا بِهِ نَحْيَا وَنَتَحَرَّكُ وَنُوجَدُ»
(أعمال الرسل 17: 27، 28). ومع أنّ
العنصرين الإلهي والبشري متميزان واحدهما
عن الآخر، ليسا أجنبييْن أحدهما عن
الآخر، وليسا أيضاً متضادّين أو متعارضين.
فالإِنسان هو شرارة من نار عظيمة، أو إناء فارغ
بحاجة لأن يمتلئ من النبع غير المحدود، لذلك فلا
معنى لوجوده سوى في صلته باللّه. وبما أنّ
الإِنسان مخلوق على صورة اللّه، أُعطي سلطة على
مخلوقات وموجودات الأرض (راجع سفر التكوين 1:
28) إنه في الواقع يتمتع بمركز إلهي
مصغَّر ومحدود. ويقول الوحي الإِلهي عن
البشر: «أَنَا قُلْتُ إِنَّكُمْ آلِهَةٌ وَبَنُو ٱلْعَلِيِّ كُلُّكُمْ»
(مزمور 82: 6)، وهذا ما اقتبسه المسيح
عندما وجّه كلامه لليهود قائلاً: «أَلَيْسَ مَكْتُوباً فِي نَامُوسِكُمْ: أَنَا قُلْتُ إِنَّكُمْ آلِهَةٌ»
(يوحنا 10: 34). إذن الترابط بين
العنصرين الإِلهي والبشري هو من
متضمَّنات ونتائج خَلْق اللّه للإِنسان.
وبما أنّ الإِنسان خُلق على صورة اللّه،
فإن كلمة اللّه الأزلي أمكنه وهو كامل الألوهية أن
يصبح ابن الإِنسان، ذلك لأن الإِنسان هو بالطبيعة
ابن اللّه.
لم
تكن عملية التجسُّد غاية في حد ذاتها،
بل كانت وسيلة للغاية، وهي خلاص البشر،
لأن الإِنسان بسقوطه في خطية العصيان
وعدم الثقة في قول اللّه قد فصل نفسه عن
اللّه، وأفقد نفسه كل القدرة على تدبير خلاصه
بنفسه. لهذا السبب أخذ اللّه على نفسه مسؤولية
خلاص الإِنسان. ومن أجل ذلك حدث التجسّد. فاللّه
الذي تجسّد في جسم بشري أخذ مكان الإِنسان تجاه
متطلبات الشريعة والعدالة الإلهيتين. ولأنه إله
يمكنه أن يعطي قيمة غير محدودة لذلك
الألم والموت. «فَإِذْ
قَدْ تَشَارَكَ ٱلأَوْلادُ فِي ٱللَّحْمِ
وَٱلدَّمِ ٱشْتَرَكَ هُوَ أَيْضاً كَذٰلِكَ
فِيهِمَا، لِكَيْ يُبِيدَ بِٱلْمَوْتِ...
إِبْلِيسَ، وَيُعْتِقَ أُولٰئِكَ ٱلَّذِينَ
خَوْفاً مِنَ ٱلْمَوْتِ كَانُوا جَمِيعاً كُلَّ
حَيَاتِهِمْ تَحْتَ ٱلْعُبُودِيَّةِ... مِنْ ثَمَّ
كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُشْبِهَ إِخْوَتَهُ فِي
كُلِّ شَيْءٍ، لِكَيْ يَكُونَ رَحِيماً،
وَرَئِيسَ كَهَنَةٍ أَمِيناً فِي مَا
لِلّٰهِ حَتَّى يُكَفِّرَ خَطَايَا
ٱلشَّعْبِ» (عبرانيين 2: 14 - 17).
وبما
أن النص الذي أورده الوحي الإلهي في
رسالة الرسول بولس إلى فيلبي 2: 5 - 11
هو الأكثر وضوحاً في عقيدة التجسد، يشير
هذا النص أنّ المسيح «كَانَ فِي
صُورَةِ ٱللّٰهِ... لٰكِنَّهُ أَخْلَى نَفْسَهُ،
آخِذاً صُورَةَ عَبْدٍ، صَائِراً فِي شِبْهِ
ٱلنَّاسِ». وقد وردت في رسائل الرسول
بولس الموحى بها من الروح القدس إشارات
أخرى لموضوع التجسد، (2 كورنثوس 8: 9): «رَبِّنَا
يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ، أَنَّهُ مِنْ
أَجْلِكُمُ ٱفْتَقَرَ وَهُوَ غَنِيٌّ،
لِكَيْ تَسْتَغْنُوا أَنْتُمْ بِفَقْرِهِ». وفي غلاطية 4: 4 و5 يقول: «لَمَّا
جَاءَ مِلْءُ ٱلّزَمَانِ، أَرْسَلَ
ٱللّٰهُ ٱبْنَهُ مَوْلُوداً مِنِ
ٱمْرَأَةٍ، مَوْلُوداً تَحْتَ
ٱلنَّامُوسِ، لِيَفْتَدِيَ ٱلَّذِينَ
تَحْتَ ٱلنَّامُوسِ، لِنَنَالَ ٱلتَّبَنِّيَ». وفي كولوسي 1: 19 يقول الوحي الإلهي عن المسيح: «... فِيهِ سُرَّ أَنْ يَحِلَّ كُلُّ ٱلْمِلْءِ». وفي 2: 9 من نفس الرسالة يقول: «فَإِنَّهُ فِيهِ يَحِلُّ كُلُّ مِلْءِ ٱللاهُوتِ جَسَدِيّ».
المسيح
إذن، في ولادته من امرأة أخذ لنفسه
طبيعة بشرية. ومع أنه بقي على سموّه
الإلهي إلاّ أنه صار إنساناً حقاً، فإن
حلول «كل ملء اللاهوت» في جسد المسيح يعني أن
اللّه لبس لباساً جسدياً... وكل من
يتطلّع إلى يسوع المسيح يرى بدون شك
جسداً وإنساناً، ولكن في المسيح نرى
اللّه بالذات، بكل كمال لاهوته في لباس
إنساني. يسوع المسيح هو إذن «ٱللّٰهُ ظَهَرَ فِي ٱلْجَسَدِ» (تيموثاوس الأولى 3: 16).
لم
تكن غاية اللّه من التجسّد أن يوفر
الفداء لبني البشر فحسب، بل كانت الغاية
أيضاً أن يعلن عن ذاته للبشر بصورة أكثر
كمالاً مما أوضحه كل الأنبياء. ففي فترة
العهد القديم كلّم اللّه البشر بواسطة الأنبياء،
كاشفاً لهم شيئاً عن طبيعته وعن حالة الإِنسان
الخاطئة التعيسة، وأيضاً عن مخططه الإلهي للخلاص.
لكن فترة العهد الجديد التي نعيش فيها، تتميز
بأنّه في المسيح جاء اللّه شخصياً، وفي شخص
المسيح وعمله أعطى اللّه للبشر وحياً عن
نفسه وعن مخطط الخلاص. فالإله الأكبر
العظيم الذي خلق هذا العالم جاء فعلاً
إلى العالم وعاش بينه. هذا هو سرّ التجسد
أنّ البشر بأعينهم المجردة رأوا من هو في
الحقيقة اللّه بالذات.
المسيح هو نهاية وكمال الوحي الإلهي للبشر، «اَللّٰهُ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ قَطُّ»
(يوحنا 1: 18).لكن في المسيح، اللّه
الذي هو الروح غير المحدود، كشف عن نفسه
للبشر في كونه قد صار على هيئة البشر
المحدودة، حتى أنه في استطاعة البشر المحدودين أن
يدركوه في نطاق قدرتهم المحدودة. وعندما دخل
المسيح في تلك العلاقة الحيوية الشخصية مع الطبيعة
البشرية أضفى عليها بركة لا تُحصى، وذلك نتيجة
لتداخل اللاهوت فيها عَبْر عملية التجسد.
وبهذا فإن الطبيعة البشرية أصبحت ذات
مكانة أسمى من مكانة الملائكة نفسها، لأن
اللّه لم يختر أن يقترب بمثل هذه
العلاقة الشخصية الحميمة مع أي من خلائقه
سوى مع بني البشر. «فَإِذْ قَدْ تَشَارَكَ
ٱلأَوْلادُ فِي ٱللَّحْمِ وَٱلدَّمِ ٱشْتَرَكَ
هُوَ أَيْضاً كَذٰلِكَ فِيهِمَا... لأنَّهُ
حَقّاً لَيْسَ يُمْسِكُ ٱلْمَلائِكَةَ،
بَلْ يُمْسِكُ نَسْلَ إِبْرَاهِيمَ»
(عبرانيين 2: 14 - 16)، كما أن الطبيعة
البشرية التي اتخذها المسيح لنفسه في
التجسُّد ستبقى له إلى الأبد. لقد أحضرها معه حين
قام من الموت وعاد بها إلى الآب. ففي السماء ظهر
ليوحنا كشبه ابن إنسان في صورة بشرية (رؤيا 1:
13)، كذلك فإن إستفانوس وهو يستشهد رأى مجد اللّه،
ويسوع قائماً عن يمين اللّه في مركز
الإكرام والعظمة والقوة (أعمال الرسل 7:
56)، وهكذا فإنه بقيامة المسيح وصعوده
وجلوسه على عرش العظمة رفع معه الطبيعة
البشرية، وأوصلها فوق كل مكانة في الكون.
إن الإقامة القصيرة التي قضاها على الأرض
لم تكن مجرّد حضور إلهي أو ظهور وقتي للّه في صورة
بشرية، بل كانت تجسّداً حقيقياً ودائماً. كان بعض
شخصيات العهد القديم قد شاهدوا ظهورات إلهية، مثل
إبراهيم (تكوين 18: 1 - 33) ويعقوب (تكوين
32: 24 - 30) وموسى (خروج 24: 9 - 11،
34: 5، 6) ويشوع (يشوع 5: 13 - 15)
ووالدي شمشون (قضاة 13: 2 - 22) وإشعياء
(إشعياء 6: 1 - 5) وأصدقاء دانيال
الثلاثة: شدرخ وميشخ وعبدنغو (دانيال 3: 2 - 30).
لكن تجسّد المسيح كان يختلف عن تلك الظهورات
إختلافاً جوهرياً. ففي التجسُّد وُلد اللّه كطفل
في بيت لحم، ولمدة ثلاث وثلاثين سنة استمر ذلك
الوَصْل بين اللّه والطبيعة البشرية، بصورة بدت
فيها الطبيعة البشرية واضحة جلية.
ولا
يمكن المغالاة في تقدير أهمية عقيدة
التجسد المسيحية، فإن صحة واستقامة
المسيحية كالدين الفدائي والخلاصي الموحى
به من اللّه تثبتان أو تسقطان مع هذه
العقيدة بالذات. ولعلّ أوضح بيان لهذا الواقع
هو ما ورد في رسالة يوحنا الأولى، والتي أوحي بها
في وقت تزايد فيه عدد المرتدين وناكري الإِيمان،
وقد كان القصد منها ترسيخ إيمان المؤمنين ضد
الضلالات التي انتشرت بكثرة وشراسة. أما إحدى
تلك الضلالات الرئيسية فكانت ضلالة نكران
تجسّد المسيح، لذلك لم يصرّ يوحنا على
الاعتراف بحقيقة أن يسوع قد أتى إلى
العالم بالجسد فحسب، بل أنه جعل من هذه
الحقيقة أساساً من أساسات الإنجيل إذ
يقول: «كُلُّ رُوحٍ لا يَعْتَرِفُ بِيَسُوعَ
ٱلْمَسِيحِ أَنَّهُ قَدْ جَاءَ فِي ٱلْجَسَدِ
فَلَيْسَ مِنَ ٱللّٰهِ. وَهٰذَا هُوَ رُوحُ
ضِدِّ ٱلْمَسِيحِ ٱلَّذِي سَمِعْتُمْ
أَنَّهُ يَأْتِي، وَٱلآنَ هُوَ فِي
ٱلْعَالَمِ» (1 يوحنا 4: 3)، ثم يضيف قائلاً: «كُلُّ
مَنْ يُؤْمِنُ أَنَّ يَسُوعَ هُوَ
ٱلْمَسِيحُ فَقَدْ وُلِدَ مِنَ ٱللّٰهِ..
مَنْ لَهُ ٱلابْنُ فَلَهُ ٱلْحَيَاةُ، وَمَنْ
لَيْسَ لَهُ ٱبْنُ ٱللّٰهِ فَلَيْسَتْ لَهُ
ٱلْحَيَاةُ... وَنَعْلَمُ أَنَّ ٱبْنَ ٱللّٰهِ
قَدْ جَاءَ وَأَعْطَانَا بَصِيرَةً لِنَعْرِفَ
ٱلْحَقَّ. وَنَحْنُ فِي ٱلْحَقِّ فِي ٱبْنِهِ
يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ. هٰذَا هُوَ ٱلإِلٰهُ
ٱلْحَقُّ وَٱلْحَيَاةُ ٱلأَبَدِيَّةُ» (رسالة يوحنا الأولى 5: 1 - 20).
جواباً على السؤال: «كيف صار المسيح إنساناً وهو ابن اللّه؟» يجيب الكتاب المختصر لأصول الإِيمان: «إن
المسيح ابن اللّه صار إنساناً باتّخاذه
لنفسه جسداً حقيقياً ونفساً عاقلة، إذ
حُبل به بقوة الروح القدس في رحم مريم
العذراء، ووُلد منها ولكن دون خطية».
خُلق
الإِنسان، خلافاً لكل الحيوانات، على
صورة اللّه، وأُعطي طبيعة روحية وعقلية
ونفساً حية. يقول الرسول بولس إن اللّه « لَيْسَ بَعِيداً. لأنَّنَا بِهِ نَحْيَا وَنَتَحَرَّكُ وَنُوجَدُ»
(أعمال الرسل 17: 27، 28). ومع أنّ
العنصرين الإلهي والبشري متميزان واحدهما
عن الآخر، ليسا أجنبييْن أحدهما عن
الآخر، وليسا أيضاً متضادّين أو متعارضين.
فالإِنسان هو شرارة من نار عظيمة، أو إناء فارغ
بحاجة لأن يمتلئ من النبع غير المحدود، لذلك فلا
معنى لوجوده سوى في صلته باللّه. وبما أنّ
الإِنسان مخلوق على صورة اللّه، أُعطي سلطة على
مخلوقات وموجودات الأرض (راجع سفر التكوين 1:
28) إنه في الواقع يتمتع بمركز إلهي
مصغَّر ومحدود. ويقول الوحي الإِلهي عن
البشر: «أَنَا قُلْتُ إِنَّكُمْ آلِهَةٌ وَبَنُو ٱلْعَلِيِّ كُلُّكُمْ»
(مزمور 82: 6)، وهذا ما اقتبسه المسيح
عندما وجّه كلامه لليهود قائلاً: «أَلَيْسَ مَكْتُوباً فِي نَامُوسِكُمْ: أَنَا قُلْتُ إِنَّكُمْ آلِهَةٌ»
(يوحنا 10: 34). إذن الترابط بين
العنصرين الإِلهي والبشري هو من
متضمَّنات ونتائج خَلْق اللّه للإِنسان.
وبما أنّ الإِنسان خُلق على صورة اللّه،
فإن كلمة اللّه الأزلي أمكنه وهو كامل الألوهية أن
يصبح ابن الإِنسان، ذلك لأن الإِنسان هو بالطبيعة
ابن اللّه.
لم
تكن عملية التجسُّد غاية في حد ذاتها،
بل كانت وسيلة للغاية، وهي خلاص البشر،
لأن الإِنسان بسقوطه في خطية العصيان
وعدم الثقة في قول اللّه قد فصل نفسه عن
اللّه، وأفقد نفسه كل القدرة على تدبير خلاصه
بنفسه. لهذا السبب أخذ اللّه على نفسه مسؤولية
خلاص الإِنسان. ومن أجل ذلك حدث التجسّد. فاللّه
الذي تجسّد في جسم بشري أخذ مكان الإِنسان تجاه
متطلبات الشريعة والعدالة الإلهيتين. ولأنه إله
يمكنه أن يعطي قيمة غير محدودة لذلك
الألم والموت. «فَإِذْ
قَدْ تَشَارَكَ ٱلأَوْلادُ فِي ٱللَّحْمِ
وَٱلدَّمِ ٱشْتَرَكَ هُوَ أَيْضاً كَذٰلِكَ
فِيهِمَا، لِكَيْ يُبِيدَ بِٱلْمَوْتِ...
إِبْلِيسَ، وَيُعْتِقَ أُولٰئِكَ ٱلَّذِينَ
خَوْفاً مِنَ ٱلْمَوْتِ كَانُوا جَمِيعاً كُلَّ
حَيَاتِهِمْ تَحْتَ ٱلْعُبُودِيَّةِ... مِنْ ثَمَّ
كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُشْبِهَ إِخْوَتَهُ فِي
كُلِّ شَيْءٍ، لِكَيْ يَكُونَ رَحِيماً،
وَرَئِيسَ كَهَنَةٍ أَمِيناً فِي مَا
لِلّٰهِ حَتَّى يُكَفِّرَ خَطَايَا
ٱلشَّعْبِ» (عبرانيين 2: 14 - 17).
وبما
أن النص الذي أورده الوحي الإلهي في
رسالة الرسول بولس إلى فيلبي 2: 5 - 11
هو الأكثر وضوحاً في عقيدة التجسد، يشير
هذا النص أنّ المسيح «كَانَ فِي
صُورَةِ ٱللّٰهِ... لٰكِنَّهُ أَخْلَى نَفْسَهُ،
آخِذاً صُورَةَ عَبْدٍ، صَائِراً فِي شِبْهِ
ٱلنَّاسِ». وقد وردت في رسائل الرسول
بولس الموحى بها من الروح القدس إشارات
أخرى لموضوع التجسد، (2 كورنثوس 8: 9): «رَبِّنَا
يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ، أَنَّهُ مِنْ
أَجْلِكُمُ ٱفْتَقَرَ وَهُوَ غَنِيٌّ،
لِكَيْ تَسْتَغْنُوا أَنْتُمْ بِفَقْرِهِ». وفي غلاطية 4: 4 و5 يقول: «لَمَّا
جَاءَ مِلْءُ ٱلّزَمَانِ، أَرْسَلَ
ٱللّٰهُ ٱبْنَهُ مَوْلُوداً مِنِ
ٱمْرَأَةٍ، مَوْلُوداً تَحْتَ
ٱلنَّامُوسِ، لِيَفْتَدِيَ ٱلَّذِينَ
تَحْتَ ٱلنَّامُوسِ، لِنَنَالَ ٱلتَّبَنِّيَ». وفي كولوسي 1: 19 يقول الوحي الإلهي عن المسيح: «... فِيهِ سُرَّ أَنْ يَحِلَّ كُلُّ ٱلْمِلْءِ». وفي 2: 9 من نفس الرسالة يقول: «فَإِنَّهُ فِيهِ يَحِلُّ كُلُّ مِلْءِ ٱللاهُوتِ جَسَدِيّ».
المسيح
إذن، في ولادته من امرأة أخذ لنفسه
طبيعة بشرية. ومع أنه بقي على سموّه
الإلهي إلاّ أنه صار إنساناً حقاً، فإن
حلول «كل ملء اللاهوت» في جسد المسيح يعني أن
اللّه لبس لباساً جسدياً... وكل من
يتطلّع إلى يسوع المسيح يرى بدون شك
جسداً وإنساناً، ولكن في المسيح نرى
اللّه بالذات، بكل كمال لاهوته في لباس
إنساني. يسوع المسيح هو إذن «ٱللّٰهُ ظَهَرَ فِي ٱلْجَسَدِ» (تيموثاوس الأولى 3: 16).
لم
تكن غاية اللّه من التجسّد أن يوفر
الفداء لبني البشر فحسب، بل كانت الغاية
أيضاً أن يعلن عن ذاته للبشر بصورة أكثر
كمالاً مما أوضحه كل الأنبياء. ففي فترة
العهد القديم كلّم اللّه البشر بواسطة الأنبياء،
كاشفاً لهم شيئاً عن طبيعته وعن حالة الإِنسان
الخاطئة التعيسة، وأيضاً عن مخططه الإلهي للخلاص.
لكن فترة العهد الجديد التي نعيش فيها، تتميز
بأنّه في المسيح جاء اللّه شخصياً، وفي شخص
المسيح وعمله أعطى اللّه للبشر وحياً عن
نفسه وعن مخطط الخلاص. فالإله الأكبر
العظيم الذي خلق هذا العالم جاء فعلاً
إلى العالم وعاش بينه. هذا هو سرّ التجسد
أنّ البشر بأعينهم المجردة رأوا من هو في
الحقيقة اللّه بالذات.
المسيح هو نهاية وكمال الوحي الإلهي للبشر، «اَللّٰهُ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ قَطُّ»
(يوحنا 1: 18).لكن في المسيح، اللّه
الذي هو الروح غير المحدود، كشف عن نفسه
للبشر في كونه قد صار على هيئة البشر
المحدودة، حتى أنه في استطاعة البشر المحدودين أن
يدركوه في نطاق قدرتهم المحدودة. وعندما دخل
المسيح في تلك العلاقة الحيوية الشخصية مع الطبيعة
البشرية أضفى عليها بركة لا تُحصى، وذلك نتيجة
لتداخل اللاهوت فيها عَبْر عملية التجسد.
وبهذا فإن الطبيعة البشرية أصبحت ذات
مكانة أسمى من مكانة الملائكة نفسها، لأن
اللّه لم يختر أن يقترب بمثل هذه
العلاقة الشخصية الحميمة مع أي من خلائقه
سوى مع بني البشر. «فَإِذْ قَدْ تَشَارَكَ
ٱلأَوْلادُ فِي ٱللَّحْمِ وَٱلدَّمِ ٱشْتَرَكَ
هُوَ أَيْضاً كَذٰلِكَ فِيهِمَا... لأنَّهُ
حَقّاً لَيْسَ يُمْسِكُ ٱلْمَلائِكَةَ،
بَلْ يُمْسِكُ نَسْلَ إِبْرَاهِيمَ»
(عبرانيين 2: 14 - 16)، كما أن الطبيعة
البشرية التي اتخذها المسيح لنفسه في
التجسُّد ستبقى له إلى الأبد. لقد أحضرها معه حين
قام من الموت وعاد بها إلى الآب. ففي السماء ظهر
ليوحنا كشبه ابن إنسان في صورة بشرية (رؤيا 1:
13)، كذلك فإن إستفانوس وهو يستشهد رأى مجد اللّه،
ويسوع قائماً عن يمين اللّه في مركز
الإكرام والعظمة والقوة (أعمال الرسل 7:
56)، وهكذا فإنه بقيامة المسيح وصعوده
وجلوسه على عرش العظمة رفع معه الطبيعة
البشرية، وأوصلها فوق كل مكانة في الكون.
إن الإقامة القصيرة التي قضاها على الأرض
لم تكن مجرّد حضور إلهي أو ظهور وقتي للّه في صورة
بشرية، بل كانت تجسّداً حقيقياً ودائماً. كان بعض
شخصيات العهد القديم قد شاهدوا ظهورات إلهية، مثل
إبراهيم (تكوين 18: 1 - 33) ويعقوب (تكوين
32: 24 - 30) وموسى (خروج 24: 9 - 11،
34: 5، 6) ويشوع (يشوع 5: 13 - 15)
ووالدي شمشون (قضاة 13: 2 - 22) وإشعياء
(إشعياء 6: 1 - 5) وأصدقاء دانيال
الثلاثة: شدرخ وميشخ وعبدنغو (دانيال 3: 2 - 30).
لكن تجسّد المسيح كان يختلف عن تلك الظهورات
إختلافاً جوهرياً. ففي التجسُّد وُلد اللّه كطفل
في بيت لحم، ولمدة ثلاث وثلاثين سنة استمر ذلك
الوَصْل بين اللّه والطبيعة البشرية، بصورة بدت
فيها الطبيعة البشرية واضحة جلية.
ولا
يمكن المغالاة في تقدير أهمية عقيدة
التجسد المسيحية، فإن صحة واستقامة
المسيحية كالدين الفدائي والخلاصي الموحى
به من اللّه تثبتان أو تسقطان مع هذه
العقيدة بالذات. ولعلّ أوضح بيان لهذا الواقع
هو ما ورد في رسالة يوحنا الأولى، والتي أوحي بها
في وقت تزايد فيه عدد المرتدين وناكري الإِيمان،
وقد كان القصد منها ترسيخ إيمان المؤمنين ضد
الضلالات التي انتشرت بكثرة وشراسة. أما إحدى
تلك الضلالات الرئيسية فكانت ضلالة نكران
تجسّد المسيح، لذلك لم يصرّ يوحنا على
الاعتراف بحقيقة أن يسوع قد أتى إلى
العالم بالجسد فحسب، بل أنه جعل من هذه
الحقيقة أساساً من أساسات الإنجيل إذ
يقول: «كُلُّ رُوحٍ لا يَعْتَرِفُ بِيَسُوعَ
ٱلْمَسِيحِ أَنَّهُ قَدْ جَاءَ فِي ٱلْجَسَدِ
فَلَيْسَ مِنَ ٱللّٰهِ. وَهٰذَا هُوَ رُوحُ
ضِدِّ ٱلْمَسِيحِ ٱلَّذِي سَمِعْتُمْ
أَنَّهُ يَأْتِي، وَٱلآنَ هُوَ فِي
ٱلْعَالَمِ» (1 يوحنا 4: 3)، ثم يضيف قائلاً: «كُلُّ
مَنْ يُؤْمِنُ أَنَّ يَسُوعَ هُوَ
ٱلْمَسِيحُ فَقَدْ وُلِدَ مِنَ ٱللّٰهِ..
مَنْ لَهُ ٱلابْنُ فَلَهُ ٱلْحَيَاةُ، وَمَنْ
لَيْسَ لَهُ ٱبْنُ ٱللّٰهِ فَلَيْسَتْ لَهُ
ٱلْحَيَاةُ... وَنَعْلَمُ أَنَّ ٱبْنَ ٱللّٰهِ
قَدْ جَاءَ وَأَعْطَانَا بَصِيرَةً لِنَعْرِفَ
ٱلْحَقَّ. وَنَحْنُ فِي ٱلْحَقِّ فِي ٱبْنِهِ
يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ. هٰذَا هُوَ ٱلإِلٰهُ
ٱلْحَقُّ وَٱلْحَيَاةُ ٱلأَبَدِيَّةُ» (رسالة يوحنا الأولى 5: 1 - 20).
اسطفانوسخـادم الرب
-
تاريخ التسجيل : 06/12/2010
عدد المساهمات : 410
شفيعى : الرب يسوع
نقاط : 772
الديانة : مسيحى
رد: تجسد الله
الميلاد العذراوي
في
الفصول الأولى من الإنجيل بحسب متى ولوقا ترد بيانات
مفصّلة عن ولادة يسوع المسيح من العذراء مريم. وهي توضح لنا كيف
أن الإله الرحيم المحب يتدخَّل لأجل خلاص شعبه تحقيقاً لمواعيده
وتتميماً لنبوّات وحيه الطاهر. أما التدخل الإلهي الخلاصي فقد حمل
طابعاً معجزياً. ولم يكن حدوث المعجزات التي ارتبطت بمجيء
المسيح إلى عالم البشر (بما فيها ميلاده العذراوي) لمجرد سدّ
حاجات فردية مختلفة ومتشعّبة، ولم يكن مجرد أحداث متفرِّقة، بل
كانت المعجزات كلها مرتبطة معاً ضمن نطاق تتميم المخطط الإلهي
للفداء، والسيد المسيح هو مركزه.
لم
تكن المعجزات المدوَّنة في الوحي الإلهي - سواء كانت في
العهد القديم أو الجديد من الكتاب المقدس (خاصة تلك التي تختص
بتجسّد المسيح وقيامته من الموت) - لم تكن من صنع ظروف تاريخية أو
اجتماعية عارضة، لأننا لو وضعنا نصب أعيننا أن المسيح شخصية غير
اعتيادية، فإنه يسهل علينا إدراك ضرورة ارتباط تاريخية
دخوله وخروجه من عالم البشر بمظاهر تاريخية معجزية غير اعتيادية.
لذلك، ونحن نتعرّض لموضوع ولادته المعجزية من عذراء، لا بد لنا أن
نضع في اعتبارنا الظروف الإجتماعية والتاريخية التي
رافقت عملية مجيئه إلى عالم البشر. في لوقا 1: 26 - 38، يسجل لنا
الوحي الإلهي أن يوسف خطيب مريم كان نجاراً ذا وضع اجتماعي
متواضع. واختار اللّه أن يكون حبل مريم بالمخلّص معجزياً بواسطة
الروح القدس، وأعلنت بشارة الملاك لمريم أن المسيا
المولود منها سيكون له عرش داود بالذات. سمع يوسف عن الأمر وقرر
حل خطبته من مريم بهدوء، دون أن يسيء إلى سمعتها. لكن ملاك الرب
منعه حتى من تنفيذ الأمر بمثل هذا اللطف، وعرّفه ببراءة مريم
وبضرورة عدم تخليه عنها، وأن المولود منها سيكون من الجهة
القانونية ابناً له، مع أنّه لم يكن له به أي علاقة جسدية. تقبل
يوسف مشيئة اللّه بإيمان، وحلّت الطمأنينة في قلبه، وزال
الإنزعاج. وهكذا تأمَّن مولد المسيا من عذراء، في الوقت الذي كانت
له عبر يوسف تغطية أبوية قانونية، مثل باقي أقرانه.
ينسجم
سجلّ ولادة المسيح هذا مع مكانته العظيمة ورسالته
العظيمة ورسالته السامية بين البشر. لقد كان مولده ضمن العائلة
الروحية والجسدية لشعب اللّه، وخاصة في المحيط الذي تمسّك بتعاليم
التوراة والأنبياء. جاء متواضعاً، ومن نسل داود الذي كان مثال
العظمة الدينية والروحية والملكية بين اليهود. لكن أسلوب
مجيئه المعجزي هذا يعكس أمراً هاماً للغاية. فمن جهة كان يجب أن
يكون إلهاً حقّاً، وهذا تمّ عبر أسلوب حبل أمّه به. ومن جهة أخرى
كان من المفروض أن يتمتع بطبيعة بشرية حقيقية، وهذا تمّ بولادته
من امرأة كما هو الحال مع باقي البشر. لعل تلك الحقيقة
المزدوجة هي جوهر ولبّ عملية التجسّد نفسها. فلو أنّ المسيح جاء
بدون أحد هذين العنصرين، الإلهي والإِنساني، لما انطبقت عليه
أوصاف المسيا المنتظر، ولما تمّت النبوّات التي أشارت إلى
مجيئه من عذراء (راجع نبوة إشعياء 7: 14) كما أشارت إلى وجوده
الأزلي السابق، وإلى كونه الرب الآتي للبشر بالذات (راجع نبوة
إشعياء 9: 6 - 7 ونبوة ميخا 5: 1 - 4). ثم أنه لو لم يتوفر فيه
هذان العنصران، الإلهي والبشري، لما كان صالحاً لأن يكون
فادي البشر والوسيط بينهم وبين اللّه. أما وأن ملامح كل من
ألوهيته وبشريته قد تجلّت في ولادته العذراوية، واستمرت في الوضوح
عبر حياته الأرضية وحتى قيامته من الأموات بعد صَلْبه، فإنه
لم يعُدْ هناك مجال للشك في كونه هو ابن العذراء، الإله
المتجسد، الذي توقَّعت قدومه أجيال المؤمنين.
لكن
أهمّ جوانب ولادة المسيح العذراوية هو الجانب التاريخي لها.
لم تكن الولادة العذراوية مجرد ادّعاء تمسكت به مريم أو
أقاربها للتأكُّد من تطبيق نبوّات الأنبياء عن الوليد المنتظر، أو
لستر فضيحة صدمت العائلة. صحيح أن مريم كانت أول من عرف بالأمر،
لكن معرفتها جاءت قبل إتمامه. لقد أخبرها الملاك بمشيئة
اللّه الطاهرة لها قبل أن يتم شيء. ثم أن اللّه كشف عن تلك
الحقيقة ليوسف خطيبها، وللرعاة في البرية، وحكماء المشرق الذين
ساروا وراء النجم غير المعتاد الذي دلّهم على مكان ولادة الصبي.
أمّا أليصابات أمّ يوحنا المعمدان فقد أوحى لها اللّه
بتلك الحقيقة وهي في شهرها السادس من الحمل، ولم يتبقَّ على ولادة
ابنها سوى ثلاثة أشهر، إذ أنه بمجرد لقاء مريم شعرت بتحرُّك غير
طبيعي للجنين الذي تحمله، وقد تفهّمت فوراً، بإرشاد
إلهي، أن مريم هي العذراء الموعودة التي كانت ستحمل الملك المنتظر
الذي يأتي ابنها ليجهّز الطريق لمجيئه. (راجع الإنجيل حسب لوقا
1: 23 - 55).
لا
يخفى على بال أحد أن ولادة يوحنا المعمدان نفسه وحبل أمّه
به لم تكن خالية من عنصر تدخُّل المشيئة الإلهية المعجزي، لكن
مع أن حبل أليصابات بابنها يوحنا جاء في مثل هذا العمر المتأخر،
بتدخُّل إلهي لإصلاح عقمها هي وزوجها، فقد كان مولد يوحنا طبيعياً
واعتيادياً، وليس بطريقة معجزية غير معتادة، كما هو
الحال مع المسيح. (راجع لوقا 1: 5 - 23) أمّا عنصر عدم التشابه
الجوهري بين مولد يوحنا المعمدان ومولد المسيح، فقد ارتكز في
ولادة المسيح العذراوية. فمع تدخّل الإرادة والقوة البشرية في
عملية مجيء يوحنا المعمدان إلى العالم، بقي مجيئه إلى عالم
الأحياء نتيجة حبل طبيعي، اشترك فيه زكريا وأليصابات. أما ولادة
يسوع فجاءت نتيجة لحبل معجزي من عمل اللّه المباشر لم يكن لرجل أي
دور فيه على الإطلاق. فيما عدا ذلك الأمر فإن المسيح،
كيوحنا وغيره من البشر، حملته أمه في بطنها تسعة أشهر، كما وأن
عملية خروجه من بطن أمّه جاءت على نحو طبيعي معتاد. من هنا جاء
تركيز المشيئة الإلهية في توضيح فرادة مجيء المسيح إلى عالم
البشر على ولادته العذراوية بالذات، وذلك تشديداً، ليس على
انفراده بالدور الخلاصي الذي جاء لتنفيذه فحسب، بل أيضاً لتمتُّعه
بطبيعتيه الإلهية والبشرية. صحيح أنه كان في استطاعة اللّه أن
يأتي إلى عالم البشر بأسلوب مختلف، لو كانت تلك مشيئته.
لكن اختياره لوسيلة الولادة من عذراء حقق ما أراده هو بأسلوب واضح
وملفت لانتباه البشر.
وقد
دلَّ ميلاد المسيح من العذراء مريم على أمرين هامين بالنسبة
لهويته. أولاً: إن طبيعته الإلهية لم يكن لها أم، وثانياً:
إن طبيعته البشرية لم يكن لها أب. ابن الإِنسان لم يكن ابن أي
إنسان. ثم أن هذين الأمرين فصلا المسيح عن الطبيعة الساقطة
الموروثة عن آدم التي أصابت باقي البشر. فلولا ميلاده العذراوي
لما صَلُح لتنفيذ عملية الخلاص كإنسان، لأنه بدون ذلك
يكون قد وُلد في الخطية كباقي البشر. ولولا ميلاده العذراوي ما
كان قد حمل تلك الهوية والطبيعة الإلهية غير المحدودة، التي هي
وحدها تخوّله حمْل خطايا عدد لا يُحصى من البشر الهالكين.
الفصل الرابع: تواضع المسيح
يخبرنا الرسول بولس في رسالته إلى فيلبي 2: 8 أن المسيح «وضع نفسه» عند إنجازه لعملية الفداء. وقد عبّر كتاب أصول الإِيمان عن هذا الموضوع بقوله: «كان
اتضاع المسيح بولادته، وذلك في حالة متدنّية، وبجعله تحت
الشريعة، وبتحمُّله مشقات هذه الحياة وغضب اللّه والموت اللعين
على الصليب، وبدفنه ومكوثه تحت سلطان الموت إلى حين».
بحسب
هذا البيان فإن المرحلة الأولى في اتضاع المسيح كانت في
ولادته. إنه رئيس المجد الذي يشترك في بهاء وجلال اللّه الآب،
لكنه تنازل لكي يتخذ (في وحدة شخصية ومستمرة مع ذاته) طبيعة هي
أدنى حداً من طبيعته الأصلية. حتى لو أنه دخل العالم كملك
متسربل بالأرجوان ومتوّج بالذهب لكان ذلك تنازلاً كبيراً. أمّا
أن يكون قد وُلد كطفل عاجز يتكل تماماً على أمّه، وأن يكون فقيراً
لدرجة أنه لم يكن له موضع ليسند رأسه، وكانت حياته معرَّضة
للخطر بسبب اضطهاد هيرودس لدرجة أن والديه فرّا هاربين إلى
مصر. هذه الأمور تكشف بجلاء عن تنازله الكلي واتضاعه المطلق،
لصالحنا. وهذا ما يصعب على عقولنا إدراكه. فمع أنه كان مصدر
الشريعة نفسها فقد اعتاد في نموّه على محدودية كيانه البشري،
وأخضع نفسه لمتطلبات الختان. وهكذا أخذ مكانه تحت الشريعة
كما لو كان يهودياً عادياً.
وسكن
المسيح في بيت حقير في قرية وضيعة ومحتقرة هي الناصرة، وسط
جيران خشنين، وفي محيط ضيق ومنكمش، يهمله دوماً أصحاب الشأن.
ومع أنه ربّ الجميع فإنه كان خاضعاً ليوسف ومريم كطفل بشري عادي.
كما عمل كادحاً في حانوت النجار، وأخضع نفسه لمشقات المساكين
والمتضعين. لقد دفعته خدمته الجهارية للاتصال بكل صنف ولون
من البشر، ابتداءً بالضعفاء والخطاة، ونزولاً بالسفلاء والمنحطين،
فلم يتردد عن التعامل معهم جميعاً. ومع أنه كان إلهاً قدّوساً
طاهراً، فقد عاشر هؤلاء يوماً بعد يوم، وكأنه واحد منهم.
وكان يأكل مع العشارين المحتقرين ومع الفريسيين المتكبرين. لقد
تعرّض للجوع والعطش وشعر بهما مرّات كثيرة. لم يكن له موضع ليسند
رأسه، حتى أنه لم يكن لديه ما في جعبة أدنى الأنبياء في مجتمعه.
فقد قاسى عداوة مرّة واضطهاداً من زعماء اليهود. ومع أن
اتضاع المسيح استمر بشكل أو بآخر عبر كافة مراحل حياته الأرضية،
فقد ازدادت وطأة آلامه لدى اقتراب خدمته الخلاصية من نهايتها. لقد
تعرّض في المرحلة الأخيرة من حياته على الأرض لاختبار أعمق
وأقسى، هو اختبار الذل والبغض من أعدائه. وصلت المذلة إلى
ذروتها عندما جرّه أعداؤه محتقراً ومذلولاً وسط صيحات اللامبالاة
القاسية وعواطف الشعب الهائجة ضدّه، والمنادية بجهل وغباء:
«اصلبه! اصلبه!». فبدأ يحمل الدينونة
الهائلة التي كان قد سبق رآها آتية على الأمّة اليهودية، عبئاً
عليه. وكان تألمه وموته على الصليب أشدّ أنواع الموت
وأكثرها رهبة وعذاباً.
لم
تكن الآلام الجسدية كل ما كان عليه أن يتحمّله على الصليب،
فبما أنه كان يقوم بعمله الخلاصي عن شعبه، أي بذل نفسه فدية،
فإنه عومل كما لو كان هو بالذات قد أخطأ واستحقّ العذاب. حتى أن
حضور الآب الذي كان يلازمه في كل لحظة من لحظات حياته حجب عنه في
تلك اللحظات تماماً كما يحجب الظلام نور الشمس. أمّا
نفسه الحسّاسة فقد تُركت لتتألم وحدها، في خصام عنيف مع قوى الشر
الغاشمة التي سعت باستماتة يصعب وصفها في هذا الظرف الأخير، آملة
في تفشيل عمله الفدائي. أما صراخ عذابه: «إلهي إلهي، لماذا تركتني؟»
فهو دليل على شدّة تألمه. أمّا نحن فلا يمكننا أن نتفهّم ولو
جزئياً مشقة ما تحمّله وهو معلّق على خشبة الصليب. ولكننا نعلم
أنه لم يعمل أية خطية، ولم يكن للموت أي حق فيه. لقد أخذ
مكاننا باختياره، وتحمّل العقاب الذي استحققناه نحن. وهكذا صار
لنا كفارة عن خطيتنا. لذلك لا يمكننا مجرّد طرح مسؤولية صلبه على
يهود ورومان ذلك العصر وحدهم، بل ما يمكننا فعله هو أننا
بالتوبة والاتضاع نعترف بمظهر الجريمة الأوسع - فخطيتنا نحن،
وخطيتهم هم، هي التي جلبت عليه تلك الآلام المبرحة. لقد تألم
بصورة خاصة لأجل المعذبين أفراداً وجماعات، بغضّ النظر عن العصر
الذي يعيشون فيه، لأنه حمل عنهم ذلك الحمل.
ثمّ
أنّ اتضاع المسيح تُوِّج بدفنه في مقبرة أُعدّت لبشر لم يكن
موتهم متوقَّعاً فحسب، بل كان أمراً محتوماً، ففي دفنه اشترك
مع كل البشر الذين يموتون ويُدفنون، والذين تنحل أجسادهم وتزول.
ولكن جسده لم ينحل، بل قام من الأموات أمجد قيامة بعد ثلاثة أيام.
في
الفصول الأولى من الإنجيل بحسب متى ولوقا ترد بيانات
مفصّلة عن ولادة يسوع المسيح من العذراء مريم. وهي توضح لنا كيف
أن الإله الرحيم المحب يتدخَّل لأجل خلاص شعبه تحقيقاً لمواعيده
وتتميماً لنبوّات وحيه الطاهر. أما التدخل الإلهي الخلاصي فقد حمل
طابعاً معجزياً. ولم يكن حدوث المعجزات التي ارتبطت بمجيء
المسيح إلى عالم البشر (بما فيها ميلاده العذراوي) لمجرد سدّ
حاجات فردية مختلفة ومتشعّبة، ولم يكن مجرد أحداث متفرِّقة، بل
كانت المعجزات كلها مرتبطة معاً ضمن نطاق تتميم المخطط الإلهي
للفداء، والسيد المسيح هو مركزه.
لم
تكن المعجزات المدوَّنة في الوحي الإلهي - سواء كانت في
العهد القديم أو الجديد من الكتاب المقدس (خاصة تلك التي تختص
بتجسّد المسيح وقيامته من الموت) - لم تكن من صنع ظروف تاريخية أو
اجتماعية عارضة، لأننا لو وضعنا نصب أعيننا أن المسيح شخصية غير
اعتيادية، فإنه يسهل علينا إدراك ضرورة ارتباط تاريخية
دخوله وخروجه من عالم البشر بمظاهر تاريخية معجزية غير اعتيادية.
لذلك، ونحن نتعرّض لموضوع ولادته المعجزية من عذراء، لا بد لنا أن
نضع في اعتبارنا الظروف الإجتماعية والتاريخية التي
رافقت عملية مجيئه إلى عالم البشر. في لوقا 1: 26 - 38، يسجل لنا
الوحي الإلهي أن يوسف خطيب مريم كان نجاراً ذا وضع اجتماعي
متواضع. واختار اللّه أن يكون حبل مريم بالمخلّص معجزياً بواسطة
الروح القدس، وأعلنت بشارة الملاك لمريم أن المسيا
المولود منها سيكون له عرش داود بالذات. سمع يوسف عن الأمر وقرر
حل خطبته من مريم بهدوء، دون أن يسيء إلى سمعتها. لكن ملاك الرب
منعه حتى من تنفيذ الأمر بمثل هذا اللطف، وعرّفه ببراءة مريم
وبضرورة عدم تخليه عنها، وأن المولود منها سيكون من الجهة
القانونية ابناً له، مع أنّه لم يكن له به أي علاقة جسدية. تقبل
يوسف مشيئة اللّه بإيمان، وحلّت الطمأنينة في قلبه، وزال
الإنزعاج. وهكذا تأمَّن مولد المسيا من عذراء، في الوقت الذي كانت
له عبر يوسف تغطية أبوية قانونية، مثل باقي أقرانه.
ينسجم
سجلّ ولادة المسيح هذا مع مكانته العظيمة ورسالته
العظيمة ورسالته السامية بين البشر. لقد كان مولده ضمن العائلة
الروحية والجسدية لشعب اللّه، وخاصة في المحيط الذي تمسّك بتعاليم
التوراة والأنبياء. جاء متواضعاً، ومن نسل داود الذي كان مثال
العظمة الدينية والروحية والملكية بين اليهود. لكن أسلوب
مجيئه المعجزي هذا يعكس أمراً هاماً للغاية. فمن جهة كان يجب أن
يكون إلهاً حقّاً، وهذا تمّ عبر أسلوب حبل أمّه به. ومن جهة أخرى
كان من المفروض أن يتمتع بطبيعة بشرية حقيقية، وهذا تمّ بولادته
من امرأة كما هو الحال مع باقي البشر. لعل تلك الحقيقة
المزدوجة هي جوهر ولبّ عملية التجسّد نفسها. فلو أنّ المسيح جاء
بدون أحد هذين العنصرين، الإلهي والإِنساني، لما انطبقت عليه
أوصاف المسيا المنتظر، ولما تمّت النبوّات التي أشارت إلى
مجيئه من عذراء (راجع نبوة إشعياء 7: 14) كما أشارت إلى وجوده
الأزلي السابق، وإلى كونه الرب الآتي للبشر بالذات (راجع نبوة
إشعياء 9: 6 - 7 ونبوة ميخا 5: 1 - 4). ثم أنه لو لم يتوفر فيه
هذان العنصران، الإلهي والبشري، لما كان صالحاً لأن يكون
فادي البشر والوسيط بينهم وبين اللّه. أما وأن ملامح كل من
ألوهيته وبشريته قد تجلّت في ولادته العذراوية، واستمرت في الوضوح
عبر حياته الأرضية وحتى قيامته من الأموات بعد صَلْبه، فإنه
لم يعُدْ هناك مجال للشك في كونه هو ابن العذراء، الإله
المتجسد، الذي توقَّعت قدومه أجيال المؤمنين.
لكن
أهمّ جوانب ولادة المسيح العذراوية هو الجانب التاريخي لها.
لم تكن الولادة العذراوية مجرد ادّعاء تمسكت به مريم أو
أقاربها للتأكُّد من تطبيق نبوّات الأنبياء عن الوليد المنتظر، أو
لستر فضيحة صدمت العائلة. صحيح أن مريم كانت أول من عرف بالأمر،
لكن معرفتها جاءت قبل إتمامه. لقد أخبرها الملاك بمشيئة
اللّه الطاهرة لها قبل أن يتم شيء. ثم أن اللّه كشف عن تلك
الحقيقة ليوسف خطيبها، وللرعاة في البرية، وحكماء المشرق الذين
ساروا وراء النجم غير المعتاد الذي دلّهم على مكان ولادة الصبي.
أمّا أليصابات أمّ يوحنا المعمدان فقد أوحى لها اللّه
بتلك الحقيقة وهي في شهرها السادس من الحمل، ولم يتبقَّ على ولادة
ابنها سوى ثلاثة أشهر، إذ أنه بمجرد لقاء مريم شعرت بتحرُّك غير
طبيعي للجنين الذي تحمله، وقد تفهّمت فوراً، بإرشاد
إلهي، أن مريم هي العذراء الموعودة التي كانت ستحمل الملك المنتظر
الذي يأتي ابنها ليجهّز الطريق لمجيئه. (راجع الإنجيل حسب لوقا
1: 23 - 55).
لا
يخفى على بال أحد أن ولادة يوحنا المعمدان نفسه وحبل أمّه
به لم تكن خالية من عنصر تدخُّل المشيئة الإلهية المعجزي، لكن
مع أن حبل أليصابات بابنها يوحنا جاء في مثل هذا العمر المتأخر،
بتدخُّل إلهي لإصلاح عقمها هي وزوجها، فقد كان مولد يوحنا طبيعياً
واعتيادياً، وليس بطريقة معجزية غير معتادة، كما هو
الحال مع المسيح. (راجع لوقا 1: 5 - 23) أمّا عنصر عدم التشابه
الجوهري بين مولد يوحنا المعمدان ومولد المسيح، فقد ارتكز في
ولادة المسيح العذراوية. فمع تدخّل الإرادة والقوة البشرية في
عملية مجيء يوحنا المعمدان إلى العالم، بقي مجيئه إلى عالم
الأحياء نتيجة حبل طبيعي، اشترك فيه زكريا وأليصابات. أما ولادة
يسوع فجاءت نتيجة لحبل معجزي من عمل اللّه المباشر لم يكن لرجل أي
دور فيه على الإطلاق. فيما عدا ذلك الأمر فإن المسيح،
كيوحنا وغيره من البشر، حملته أمه في بطنها تسعة أشهر، كما وأن
عملية خروجه من بطن أمّه جاءت على نحو طبيعي معتاد. من هنا جاء
تركيز المشيئة الإلهية في توضيح فرادة مجيء المسيح إلى عالم
البشر على ولادته العذراوية بالذات، وذلك تشديداً، ليس على
انفراده بالدور الخلاصي الذي جاء لتنفيذه فحسب، بل أيضاً لتمتُّعه
بطبيعتيه الإلهية والبشرية. صحيح أنه كان في استطاعة اللّه أن
يأتي إلى عالم البشر بأسلوب مختلف، لو كانت تلك مشيئته.
لكن اختياره لوسيلة الولادة من عذراء حقق ما أراده هو بأسلوب واضح
وملفت لانتباه البشر.
وقد
دلَّ ميلاد المسيح من العذراء مريم على أمرين هامين بالنسبة
لهويته. أولاً: إن طبيعته الإلهية لم يكن لها أم، وثانياً:
إن طبيعته البشرية لم يكن لها أب. ابن الإِنسان لم يكن ابن أي
إنسان. ثم أن هذين الأمرين فصلا المسيح عن الطبيعة الساقطة
الموروثة عن آدم التي أصابت باقي البشر. فلولا ميلاده العذراوي
لما صَلُح لتنفيذ عملية الخلاص كإنسان، لأنه بدون ذلك
يكون قد وُلد في الخطية كباقي البشر. ولولا ميلاده العذراوي ما
كان قد حمل تلك الهوية والطبيعة الإلهية غير المحدودة، التي هي
وحدها تخوّله حمْل خطايا عدد لا يُحصى من البشر الهالكين.
الفصل الرابع: تواضع المسيح
يخبرنا الرسول بولس في رسالته إلى فيلبي 2: 8 أن المسيح «وضع نفسه» عند إنجازه لعملية الفداء. وقد عبّر كتاب أصول الإِيمان عن هذا الموضوع بقوله: «كان
اتضاع المسيح بولادته، وذلك في حالة متدنّية، وبجعله تحت
الشريعة، وبتحمُّله مشقات هذه الحياة وغضب اللّه والموت اللعين
على الصليب، وبدفنه ومكوثه تحت سلطان الموت إلى حين».
بحسب
هذا البيان فإن المرحلة الأولى في اتضاع المسيح كانت في
ولادته. إنه رئيس المجد الذي يشترك في بهاء وجلال اللّه الآب،
لكنه تنازل لكي يتخذ (في وحدة شخصية ومستمرة مع ذاته) طبيعة هي
أدنى حداً من طبيعته الأصلية. حتى لو أنه دخل العالم كملك
متسربل بالأرجوان ومتوّج بالذهب لكان ذلك تنازلاً كبيراً. أمّا
أن يكون قد وُلد كطفل عاجز يتكل تماماً على أمّه، وأن يكون فقيراً
لدرجة أنه لم يكن له موضع ليسند رأسه، وكانت حياته معرَّضة
للخطر بسبب اضطهاد هيرودس لدرجة أن والديه فرّا هاربين إلى
مصر. هذه الأمور تكشف بجلاء عن تنازله الكلي واتضاعه المطلق،
لصالحنا. وهذا ما يصعب على عقولنا إدراكه. فمع أنه كان مصدر
الشريعة نفسها فقد اعتاد في نموّه على محدودية كيانه البشري،
وأخضع نفسه لمتطلبات الختان. وهكذا أخذ مكانه تحت الشريعة
كما لو كان يهودياً عادياً.
وسكن
المسيح في بيت حقير في قرية وضيعة ومحتقرة هي الناصرة، وسط
جيران خشنين، وفي محيط ضيق ومنكمش، يهمله دوماً أصحاب الشأن.
ومع أنه ربّ الجميع فإنه كان خاضعاً ليوسف ومريم كطفل بشري عادي.
كما عمل كادحاً في حانوت النجار، وأخضع نفسه لمشقات المساكين
والمتضعين. لقد دفعته خدمته الجهارية للاتصال بكل صنف ولون
من البشر، ابتداءً بالضعفاء والخطاة، ونزولاً بالسفلاء والمنحطين،
فلم يتردد عن التعامل معهم جميعاً. ومع أنه كان إلهاً قدّوساً
طاهراً، فقد عاشر هؤلاء يوماً بعد يوم، وكأنه واحد منهم.
وكان يأكل مع العشارين المحتقرين ومع الفريسيين المتكبرين. لقد
تعرّض للجوع والعطش وشعر بهما مرّات كثيرة. لم يكن له موضع ليسند
رأسه، حتى أنه لم يكن لديه ما في جعبة أدنى الأنبياء في مجتمعه.
فقد قاسى عداوة مرّة واضطهاداً من زعماء اليهود. ومع أن
اتضاع المسيح استمر بشكل أو بآخر عبر كافة مراحل حياته الأرضية،
فقد ازدادت وطأة آلامه لدى اقتراب خدمته الخلاصية من نهايتها. لقد
تعرّض في المرحلة الأخيرة من حياته على الأرض لاختبار أعمق
وأقسى، هو اختبار الذل والبغض من أعدائه. وصلت المذلة إلى
ذروتها عندما جرّه أعداؤه محتقراً ومذلولاً وسط صيحات اللامبالاة
القاسية وعواطف الشعب الهائجة ضدّه، والمنادية بجهل وغباء:
«اصلبه! اصلبه!». فبدأ يحمل الدينونة
الهائلة التي كان قد سبق رآها آتية على الأمّة اليهودية، عبئاً
عليه. وكان تألمه وموته على الصليب أشدّ أنواع الموت
وأكثرها رهبة وعذاباً.
لم
تكن الآلام الجسدية كل ما كان عليه أن يتحمّله على الصليب،
فبما أنه كان يقوم بعمله الخلاصي عن شعبه، أي بذل نفسه فدية،
فإنه عومل كما لو كان هو بالذات قد أخطأ واستحقّ العذاب. حتى أن
حضور الآب الذي كان يلازمه في كل لحظة من لحظات حياته حجب عنه في
تلك اللحظات تماماً كما يحجب الظلام نور الشمس. أمّا
نفسه الحسّاسة فقد تُركت لتتألم وحدها، في خصام عنيف مع قوى الشر
الغاشمة التي سعت باستماتة يصعب وصفها في هذا الظرف الأخير، آملة
في تفشيل عمله الفدائي. أما صراخ عذابه: «إلهي إلهي، لماذا تركتني؟»
فهو دليل على شدّة تألمه. أمّا نحن فلا يمكننا أن نتفهّم ولو
جزئياً مشقة ما تحمّله وهو معلّق على خشبة الصليب. ولكننا نعلم
أنه لم يعمل أية خطية، ولم يكن للموت أي حق فيه. لقد أخذ
مكاننا باختياره، وتحمّل العقاب الذي استحققناه نحن. وهكذا صار
لنا كفارة عن خطيتنا. لذلك لا يمكننا مجرّد طرح مسؤولية صلبه على
يهود ورومان ذلك العصر وحدهم، بل ما يمكننا فعله هو أننا
بالتوبة والاتضاع نعترف بمظهر الجريمة الأوسع - فخطيتنا نحن،
وخطيتهم هم، هي التي جلبت عليه تلك الآلام المبرحة. لقد تألم
بصورة خاصة لأجل المعذبين أفراداً وجماعات، بغضّ النظر عن العصر
الذي يعيشون فيه، لأنه حمل عنهم ذلك الحمل.
ثمّ
أنّ اتضاع المسيح تُوِّج بدفنه في مقبرة أُعدّت لبشر لم يكن
موتهم متوقَّعاً فحسب، بل كان أمراً محتوماً، ففي دفنه اشترك
مع كل البشر الذين يموتون ويُدفنون، والذين تنحل أجسادهم وتزول.
ولكن جسده لم ينحل، بل قام من الأموات أمجد قيامة بعد ثلاثة أيام.
اسطفانوسخـادم الرب
-
تاريخ التسجيل : 06/12/2010
عدد المساهمات : 410
شفيعى : الرب يسوع
نقاط : 772
الديانة : مسيحى
رد: تجسد الله
مجد المسيح
جواباً على السؤال: «على أي أساس يقوم ارتفاع السيد المسيح؟» يقول كتاب أصول الإِيمان: «إن
مجد السيد المسيح يقوم على أساس قيامته من الأموات في اليوم
الثالث، وصعوده إلى السماء، وجلوسه عن يمين اللّه الآب،
وعودته لدينونة العالم في اليوم الأخير».
لا
يتعلّق ارتفاع السيد المسيح بطبيعته الإِلهية، التي هي
الآن، والتي كانت دائماً مباركة وممجدة، بل أن التمجيد يتعلّق
بطبيعته البشرية، لأن طبيعته الإِلهية لا تتغير، ولذلك فهي غير
قابلة للزيادة أو النقصان. إن اتضاعه كان مؤقتاً، وقد ابتدأ
بولادته وتمّ بدفنه، ولا يمكن تكرار هذا على الإطلاق. أمّا
إرتفاع السيد المسيح فإنه مستمر، وقد ابتدأ بقيامته وصعوده، وما
زال قائماً حتى الآن، وهو جالس عن يمين اللّه الآب، ويدير أمور
ملكوته بصورة مستمرة. إنّ هذا سيكشف عنه بصورة كاملة عند
نهاية العالم حين يأتي بمجد أبيه، مع الملائكة القديسين ليدين
الأمم ويعيّن لكل فرد مصيره الأبدي.
لم
تكن قيامة السيد المسيح مجرد خطوة أولية لتمجيده، بل إنها
أيضاً واحدة من أعظم حقائق الإنجيل. بهذا العمل انتصر السيد
المسيح على الموت، وخرج حيّاً من القبر. هذا هو البرهان على أنّ
عمله الفدائي كان ناجحاً تماماً، وكان انتصارهُ انتصاراً تاماً
على الموت. وقد أظهرت أيضاً أنّ عمله هذا قد أنجز جميع
مطاليب الشريعة الإِلهية التي سنّها اللّه عند الخليقة الأصلية:
بأن النفس التي تخطئ يجب أن تموت. لذلك فإن الموت لم يعُدْ له أي
حكم عليه، ولا على أيٍ من الذين مات عنهم وافتداهم. لقد
برهنت القيامة أيضاً على أنه كان كما قال تماماً، أي ابن اللّه،
مساوٍ للّه الآب، اللّه الذي ظهر في الجسد. وبما أنه تألم ومات
ليس بسبب خطية ارتكبها، بل كالقائد الذي ينوب عن شعبه، فإن قيامته
هي الضمان على أنه في الوقت المعيّن سيقيم أيضاً شعبه
المنتسب إليه انتساباً حيّاً في قيامة مجيدة. ذلك يعني أنّ
الإنجيل هو حق، وأنّ الشيطان قد دُحر نهائياً. انتصرت الحياة على
الموت والحق على الباطل والخير على الشر والسعادة على البؤس. كل
تلك الانتصارات هي أبدية دائمة كما أبرز الرسول بولس
أهمّيتها الحقيقية القصوى: «وَإِنْ لَمْ
يَكُنِ ٱلْمَسِيحُ قَدْ قَامَ، فَبَاطِلَةٌ كِرَازَتُنَا
وَبَاطِلٌ أَيْضاً إِيمَانُكُمْ.... وَإِنْ لَمْ يَكُنِ
ٱلْمَسِيحُ قَدْ قَامَ فَبَاطِلٌ إِيمَانُكُمْ. أَنْتُمْ بَعْدُ
فِي خَطَايَاكُمْ! إِذاً ٱلَّذِينَ رَقَدُوا فِي
ٱلْمَسِيحِ أَيْضاً هَلَكُوا! إِنْ كَانَ لَنَا فِي هٰذِهِ
ٱلْحَيَاةِ فَقَطْ رَجَاءٌ فِي ٱلْمَسِيحِ فَإِنَّنَا أَشْقَى
جَمِيعِ ٱلنَّاسِ. وَلٰكِنِ ٱلآنَ قَدْ قَامَ ٱلْمَسِيحُ مِنَ
ٱلأَمْوَاتِ وَصَارَ بَاكُورَةَ ٱلرَّاقِدِينَ. فَإِنَّهُ
إِذِ ٱلْمَوْتُ بِإِنْسَانٍ، بِإِنْسَانٍ أَيْضاً قِيَامَةُ
ٱلأَمْوَاتِ. لأنَّهُ كَمَا فِي آدَمَ يَمُوتُ ٱلْجَمِيعُ
هٰكَذَا فِي ٱلْمَسِيحِ سَيُحْيَا ٱلْجَمِيعُ. وَلٰكِنَّ كُلَّ
وَاحِدٍ فِي رُتْبَتِهِ. (المسيح هو الباكورة، ثم يتبعه الذين له،
والذين سيقيمهم عند مجيئه الثاني)» (1 كورنثوس 15: 14 - 23).
النتيجة الأولى
والأكثر تأثيراً للقيامة ظهرت في التغيير التام الذي حدث في عقول
التلاميذ وقلوبهم. فمع أنهم بعد الصلب كانوا مثَبطَّي العزم
تماماً، ومع أنهم أوشكوا على فقدان الإِيمان بالمسيح
كالمسيّا الحقيقي المنتظر، فإنهم على ضوء القيامة أصبحوا مقتنعين
اقتناعاً كاملاً أن مسيحهم الذي قام من الأموات هو ابن اللّه،
المسيّا الموعود به، مخلّص العالم. ومنذ ذلك الحين لم
يزحزحهم شيء عن اعتقادهم هذا، فخرجوا يبشرون في كل مكان، وأظهروا
أنهم مستعدون لأن يتألموا وحتى أن يموتوا إذا دعت الضرورة لأجل
الإنجيل. ونحن نعلم أن بعضهم استشهدوا في سبيل خدمتهم له،
والتاريخ يخبرنا أن أكثر تلاميذ السيد المسيح انتهت حياتهم
الأرضية بالاستشهاد لأجل مسيحهم.
والنتيجة الثانية لارتفاع السيد المسيح كانت صعوده. يذكر البشير مرقس بشكل موجز أنه بعد أن تكلّم المسيح مع التلاميذ «ٱرْتَفَعَ إِلَى ٱلسَّمَاءِ، وَجَلَسَ عَنْ يَمِينِ ٱللّٰهِ»
(مرقس 16: 19)، ويمين اللّه هو بالطبع مركز الإكرام
والتأثير والقوة والجلال. يقول البشير لوقا إن المسيح أَخْرَجَ
التلاميذ «إِلَى بَيْتِ عَنْيَا، وَرَفَعَ
يَدَيْهِ وَبَارَكَهُمْ. وَفِيمَا هُوَ يُبَارِكُهُمُ ٱنْفَرَدَ
عَنْهُمْ وَأُصْعِدَ إِلَى ٱلسَّمَاءِ» (24: 50، 51). أمّا
سرد حادثة الارتفاع سرداً وافياً فقد قام به لوقا في سفر
الأعمال. فبعد تدوين كلمات يسوع الأخيرة للتلاميذ يصف الوحي
الإِلهي: «وَلَمَّا قَالَ هٰذَا ٱرْتَفَعَ
وَهُمْ يَنْظُرُونَ، وَأَخَذَتْهُ سَحَابَةٌ عَنْ أَعْيُنِهِمْ.
وَفِيمَا كَانُوا يَشْخَصُونَ إِلَى ٱلسَّمَاءِ وَهُوَ
مُنْطَلِقٌ، إِذَا رَجُلانِ قَدْ وَقَفَا بِهِمْ بِلِبَاسٍ
أَبْيَضَ وَقَالا: أَيُّهَا ٱلرِّجَالُ ٱلْجَلِيلِيُّونَ، مَا
بَالُكُمْ وَاقِفِينَ تَنْظُرُونَ إِلَى ٱلسَّمَاءِ؟ إِنَّ
يَسُوعَ هٰذَا ٱلَّذِي ٱرْتَفَعَ عَنْكُمْ إِلَى
ٱلسَّمَاءِ سَيَأْتِي هٰكَذَا كَمَا رَأَيْتُمُوهُ مُنْطَلِقاً
إِلَى ٱلسَّمَاء» (أعمال الرسل 1: 9 - 11).
بهذا الخصوص قال أحد مشاهير اللاهوتيين:
هي موطن السيد المسيح، وهي عرشه وهيكله. فالصعود أو
الارتفاع شكَّلا الوجه المقابل لنزوله إلى الأرض. في فصل سابق كنا
قد بحثنا في موضوع وجوده السابق ورأينا أنه قد «أتى» أو «أُرسل»
في مهمة خاصة للفداء. وإذ أتمّ ذلك العمل بنجاح تام، عاد إلى
موطنه السماوي لاسترداد مكانته الأصلية العليا. هذا وعالمنا
الحاضر بما فيه من معالم الشرّ ليس المكان الملائم لوجود الفادي
في حالة مجده الكامل، ولا يمكن أن يصلح عالمنا لإِقامة المسيح
الدائمة إلاّ بعد أن يكون قد تعرّض لعملية تطهير وإعادة
خلق تجعل من العالم الحاضر هذا سماء جديدة وأرضاً جديدة. ثم بما
أنّ السيد المسيح قد جهّز كفّارة فعلية، وأوفى كل المتطلبات
القانونية المترتبة على شعبه، فإنه كان من الضروري أن يضع حياته
في من خصّتهم تلك الكفّارة، وذلك بواسطة عمل الروح
القدس. فالروح القدس هو الذي يجدد نفوس البشر، ويعدّهم إعداداً
كاملاً للوطن السماوي. ولكي ينجز ذلك فإنه يقوم بإنارة ألبابهم
الروحية، وحثّهم وتوجيههم إلى الإِيمان والتوبة، ومِنْ ثمَّ يدفع
بهم في مسيرة مطَّردة نحو التقديس. هذا وإنه بدون قوة
الروح القدس المجددة والخلاّقة يبقى البشر تحت عبء خطاياهم دون
انتفاع بعمل المسيح الخلاصي. ولكن مباشرة الروح القدس لعمله
الجليل هذا تفترض أن تسبقها عودة المسيح المخلّص لمجده الأصلي مع
الآب. لقد قال المسيح لتلاميذه: «خَيْرٌ
لَكُمْ أَنْ أَنْطَلِقَ، لأنَّهُ إِنْ لَمْ أَنْطَلِقْ لا
يَأْتِيكُمُ ٱلْمُعَزِّي، وَلٰكِنْ إِنْ ذَهَبْتُ أُرْسِلُهُ
إِلَيْكُمْ» (يوحنا 16: 7). فالبركة العظيمة الخاصة التي
تنبأ عنها الأنبياء وقالوا إنها من ميزات عصر المسيّا، هي بركة
الروح القدس. أما منح الكنيسة تلك البركة فكان مرتبطاً بصعود
الفادي. لقد تمجّد لكي يمنح التوبة ومغفرة الخطايا، ولكي
يجمع شعبه من كل الأمم وفي كل العصور ليصبح عمله الخلاصي فخراً في
حياة المؤمنين. وكان عرشه السماوي أنسب مكان للكشف عن
كمال عمله الكفّاري.
ومعاملات
اللّه مع البشر في هذا العالم تشتمل على ثلاثة أشكال
متميزة، لكل أقنوم من أقانيم الثالوث الأقدس صلة خاصة بأحدها. في
تدبير اللّه الأبدي كان يوجد ما يمكننا أن ندعوه تقسيم العمل بين
أقانيم اللاهوت، واتِّباع ترتيب معيّن للحوادث. كان عمل الآب في
الخلق والعناية الضابطة لكل شيء. وقد امتدّ عبر حقبة
العهد القديم وحتى ولادة يسوع المسيح في بيت لحم. أما عمل الابن
فقد اختصَّ بعملية الفداء وقد ابتدأ بولادته في بيت لحم واستمر
حتى يوم الخمسين. ففي أثناء ذلك الوقت قام بتجهيز كفارة عملية،
وأنجز كل المطاليب الشرعية عن شعبه، بحيث يمكن أن يُنقلوا
من حالتهم في الخطية والشقاء إلى حالة الخلاص. إنّ عمل الروح
القدس يختص بتطبيق عملية الخلاص الكفارية التي حضّرها الابن،
وترسيخها في حياة المؤمنين، وقد بدأ عمل الروح القدس هذا بشكله
الكامل والواضح في يوم الخمسين عندما تأسست كنيسة العهد
الجديد. ويمتد هذا العمل الخاص للروح القدس حتى النهاية وحتى
اكتمال عملية الخلاص وتجميع الكنيسة.
والنتيجة الثالثة
لارتفاع المسيح هي جلوسه عن يمين اللّه. من هناك يوجّه أمور
ملكوته ويحافظ على نظامه الكامل. ولكي يكون حُكم وساطته
ناجحاً تماماً، كان من الضروري أن يُعطَى حكماً مطلقاً حيث قال: «دُفِعَ إِلَيَّ كُلُّ سُلْطَانٍ فِي ٱلسَّمَاءِ وَعَلَى ٱلأَرْضِ»
(متى 28: 18). هذا ما قاله عندما عهد إلى تلاميذه بتبشير العالم
أجمع، ولقد سجّل الوحي الإلهي على لسان بولس قوله: «لأنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَمْلِكَ حَتَّى يَضَعَ جَمِيعَ ٱلأَعْدَاءِ تَحْتَ قَدَمَيْهِ». ثم قال: «آخِرُ عَدُّوٍ يُبْطَلُ هُوَ ٱلْمَوْتُ» (كورنثوس الأولى 15: 25، 26). وقد أمر المسيح تلاميذه أن يذهبوا «وَيُتَلْمِذُوا جَمِيعَ ٱلأُمَمِ» (متى 28: 19). ويؤكد انتماء تلك الشعوب للإله الحقيقي بواسطة المعمودية «وَعَمِّدُوهُمْ بِٱسْمِ ٱلآبِ وَٱلابْنِ وَٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ»، والرسالة التي يجب أن يتضمنها ذلك التبشير العام هي بالطبع اللّب الحيوي للإنجيل «وَعَلِّمُوهُمْ أَنْ يَحْفَظُوا جَمِيعَ مَا أَوْصَيْتُكُمْ بِهِ» (متى 28: 20). هذا وسنبحث في الموضوع مليّاً عندما ندرس موضوع «المسيح كملك».
والنتيجة الرابعة
والأخيرة لرتفاع المسيح ستكون مجيئه الثاني بقوة ومجد عظيم،
ليكون الديّان للعالم أجمع. فسيظهر حينئذ في جسد قيامته محاطاً
بالملائكة، وسيجلس على عرش مجده. (متى 25: 31). «سَتَنْظُرُهُ كُلُّ عَيْنٍ»
(سفر الرؤيا 1: 7). هذا هو يسوع ذاته الذي حينما كان على الأرض
رفضه شعبه، وحوكم كمجرم أمام محكمة بيلاطس، ودين بظلم
وجلس مع الأثمة. وسينال الناس من شفتي السيد خبر ثوابهم أو عقابهم
النهائي. وحينئذ، إذ يكون عهد وساطته قد تم، وتُوّج بالنجاح
الكامل، فإنه يسلّم الملكوت للآب، ويستعيد علاقته الأصلية بأقنومي
الثالوث الآخرين. ويشترك تماماً بالمجد الذي كان له مع
الآب قبل إنشاء العالم. وسيملك مع الآب والروح القدس إلى الأبد
على المفديين، «وَمَتَى أُخْضِعَ لَهُ
ٱلْكُلُّ، فَحِينَئِذٍ ٱلابْنُ نَفْسُهُ أَيْضاً سَيَخْضَعُ
لِلَّذِي أَخْضَعَ لَهُ ٱلْكُلَّ، كَيْ يَكُونَ ٱللّٰهُ ٱلْكُلَّ
فِي ٱلْكُلِّ» (1 كونثوس 15: 28).
هذا
إذن ما نعنيه بارتفاع المسيح، ويجب أن نعيد إلى ذاكرتنا
أنه لم تكن طبيعة يسوع الإلهية هي التي ارتفعت بل طبيعته البشرية
هي التي ارتفعت، أي أن الإِنسان يسوع المسيح هو الذي أخذ جسد
القيامة وصعد إلى السماء، والذي يشترك في حكم الوساطة، والذي
ستراه كل الشعوب حينما يأتي ثانية إلى العالم في اليوم
الأخير.
جواباً على السؤال: «على أي أساس يقوم ارتفاع السيد المسيح؟» يقول كتاب أصول الإِيمان: «إن
مجد السيد المسيح يقوم على أساس قيامته من الأموات في اليوم
الثالث، وصعوده إلى السماء، وجلوسه عن يمين اللّه الآب،
وعودته لدينونة العالم في اليوم الأخير».
لا
يتعلّق ارتفاع السيد المسيح بطبيعته الإِلهية، التي هي
الآن، والتي كانت دائماً مباركة وممجدة، بل أن التمجيد يتعلّق
بطبيعته البشرية، لأن طبيعته الإِلهية لا تتغير، ولذلك فهي غير
قابلة للزيادة أو النقصان. إن اتضاعه كان مؤقتاً، وقد ابتدأ
بولادته وتمّ بدفنه، ولا يمكن تكرار هذا على الإطلاق. أمّا
إرتفاع السيد المسيح فإنه مستمر، وقد ابتدأ بقيامته وصعوده، وما
زال قائماً حتى الآن، وهو جالس عن يمين اللّه الآب، ويدير أمور
ملكوته بصورة مستمرة. إنّ هذا سيكشف عنه بصورة كاملة عند
نهاية العالم حين يأتي بمجد أبيه، مع الملائكة القديسين ليدين
الأمم ويعيّن لكل فرد مصيره الأبدي.
لم
تكن قيامة السيد المسيح مجرد خطوة أولية لتمجيده، بل إنها
أيضاً واحدة من أعظم حقائق الإنجيل. بهذا العمل انتصر السيد
المسيح على الموت، وخرج حيّاً من القبر. هذا هو البرهان على أنّ
عمله الفدائي كان ناجحاً تماماً، وكان انتصارهُ انتصاراً تاماً
على الموت. وقد أظهرت أيضاً أنّ عمله هذا قد أنجز جميع
مطاليب الشريعة الإِلهية التي سنّها اللّه عند الخليقة الأصلية:
بأن النفس التي تخطئ يجب أن تموت. لذلك فإن الموت لم يعُدْ له أي
حكم عليه، ولا على أيٍ من الذين مات عنهم وافتداهم. لقد
برهنت القيامة أيضاً على أنه كان كما قال تماماً، أي ابن اللّه،
مساوٍ للّه الآب، اللّه الذي ظهر في الجسد. وبما أنه تألم ومات
ليس بسبب خطية ارتكبها، بل كالقائد الذي ينوب عن شعبه، فإن قيامته
هي الضمان على أنه في الوقت المعيّن سيقيم أيضاً شعبه
المنتسب إليه انتساباً حيّاً في قيامة مجيدة. ذلك يعني أنّ
الإنجيل هو حق، وأنّ الشيطان قد دُحر نهائياً. انتصرت الحياة على
الموت والحق على الباطل والخير على الشر والسعادة على البؤس. كل
تلك الانتصارات هي أبدية دائمة كما أبرز الرسول بولس
أهمّيتها الحقيقية القصوى: «وَإِنْ لَمْ
يَكُنِ ٱلْمَسِيحُ قَدْ قَامَ، فَبَاطِلَةٌ كِرَازَتُنَا
وَبَاطِلٌ أَيْضاً إِيمَانُكُمْ.... وَإِنْ لَمْ يَكُنِ
ٱلْمَسِيحُ قَدْ قَامَ فَبَاطِلٌ إِيمَانُكُمْ. أَنْتُمْ بَعْدُ
فِي خَطَايَاكُمْ! إِذاً ٱلَّذِينَ رَقَدُوا فِي
ٱلْمَسِيحِ أَيْضاً هَلَكُوا! إِنْ كَانَ لَنَا فِي هٰذِهِ
ٱلْحَيَاةِ فَقَطْ رَجَاءٌ فِي ٱلْمَسِيحِ فَإِنَّنَا أَشْقَى
جَمِيعِ ٱلنَّاسِ. وَلٰكِنِ ٱلآنَ قَدْ قَامَ ٱلْمَسِيحُ مِنَ
ٱلأَمْوَاتِ وَصَارَ بَاكُورَةَ ٱلرَّاقِدِينَ. فَإِنَّهُ
إِذِ ٱلْمَوْتُ بِإِنْسَانٍ، بِإِنْسَانٍ أَيْضاً قِيَامَةُ
ٱلأَمْوَاتِ. لأنَّهُ كَمَا فِي آدَمَ يَمُوتُ ٱلْجَمِيعُ
هٰكَذَا فِي ٱلْمَسِيحِ سَيُحْيَا ٱلْجَمِيعُ. وَلٰكِنَّ كُلَّ
وَاحِدٍ فِي رُتْبَتِهِ. (المسيح هو الباكورة، ثم يتبعه الذين له،
والذين سيقيمهم عند مجيئه الثاني)» (1 كورنثوس 15: 14 - 23).
النتيجة الأولى
والأكثر تأثيراً للقيامة ظهرت في التغيير التام الذي حدث في عقول
التلاميذ وقلوبهم. فمع أنهم بعد الصلب كانوا مثَبطَّي العزم
تماماً، ومع أنهم أوشكوا على فقدان الإِيمان بالمسيح
كالمسيّا الحقيقي المنتظر، فإنهم على ضوء القيامة أصبحوا مقتنعين
اقتناعاً كاملاً أن مسيحهم الذي قام من الأموات هو ابن اللّه،
المسيّا الموعود به، مخلّص العالم. ومنذ ذلك الحين لم
يزحزحهم شيء عن اعتقادهم هذا، فخرجوا يبشرون في كل مكان، وأظهروا
أنهم مستعدون لأن يتألموا وحتى أن يموتوا إذا دعت الضرورة لأجل
الإنجيل. ونحن نعلم أن بعضهم استشهدوا في سبيل خدمتهم له،
والتاريخ يخبرنا أن أكثر تلاميذ السيد المسيح انتهت حياتهم
الأرضية بالاستشهاد لأجل مسيحهم.
والنتيجة الثانية لارتفاع السيد المسيح كانت صعوده. يذكر البشير مرقس بشكل موجز أنه بعد أن تكلّم المسيح مع التلاميذ «ٱرْتَفَعَ إِلَى ٱلسَّمَاءِ، وَجَلَسَ عَنْ يَمِينِ ٱللّٰهِ»
(مرقس 16: 19)، ويمين اللّه هو بالطبع مركز الإكرام
والتأثير والقوة والجلال. يقول البشير لوقا إن المسيح أَخْرَجَ
التلاميذ «إِلَى بَيْتِ عَنْيَا، وَرَفَعَ
يَدَيْهِ وَبَارَكَهُمْ. وَفِيمَا هُوَ يُبَارِكُهُمُ ٱنْفَرَدَ
عَنْهُمْ وَأُصْعِدَ إِلَى ٱلسَّمَاءِ» (24: 50، 51). أمّا
سرد حادثة الارتفاع سرداً وافياً فقد قام به لوقا في سفر
الأعمال. فبعد تدوين كلمات يسوع الأخيرة للتلاميذ يصف الوحي
الإِلهي: «وَلَمَّا قَالَ هٰذَا ٱرْتَفَعَ
وَهُمْ يَنْظُرُونَ، وَأَخَذَتْهُ سَحَابَةٌ عَنْ أَعْيُنِهِمْ.
وَفِيمَا كَانُوا يَشْخَصُونَ إِلَى ٱلسَّمَاءِ وَهُوَ
مُنْطَلِقٌ، إِذَا رَجُلانِ قَدْ وَقَفَا بِهِمْ بِلِبَاسٍ
أَبْيَضَ وَقَالا: أَيُّهَا ٱلرِّجَالُ ٱلْجَلِيلِيُّونَ، مَا
بَالُكُمْ وَاقِفِينَ تَنْظُرُونَ إِلَى ٱلسَّمَاءِ؟ إِنَّ
يَسُوعَ هٰذَا ٱلَّذِي ٱرْتَفَعَ عَنْكُمْ إِلَى
ٱلسَّمَاءِ سَيَأْتِي هٰكَذَا كَمَا رَأَيْتُمُوهُ مُنْطَلِقاً
إِلَى ٱلسَّمَاء» (أعمال الرسل 1: 9 - 11).
بهذا الخصوص قال أحد مشاهير اللاهوتيين:
- كان
صعود المسيح بكل أقنومه، كالإله المتجسد. ابن اللّه
المتسربل بطبيعتنا ذات الجسد الحقيقي والنفس الناطقة، هو الذي
صعد.كان صعود المسيح منظوراً. فالتلاميذ شاهدوا كل هذه العملية، ورأوا المسيح يرتفع تدريجياً عن الأرض و «يصعد» حتى حجبته سحابة عن مرآهم. كان الصعود انتقالاً محلياً لشخصه من مكان إلى آخر، من الأرض إلى السماء، فالسماء هي إذن «مكان».
أمّا مكان وجود السماء بالنسبة للأرض فلم يكشف عنه الوحي
الإلهي، ولكن حسب عقيدة الكتاب المقدس، السماء هي مكان محدد أو
معيّن من الوجود، حيث يظهر حضور اللّه بطريقة خاصة،
وهو محاط بملائكته الأبرار.. وبأرواح قدّيسيه الأبرار الذين
ماتوا على رجاء قيامته.
هي موطن السيد المسيح، وهي عرشه وهيكله. فالصعود أو
الارتفاع شكَّلا الوجه المقابل لنزوله إلى الأرض. في فصل سابق كنا
قد بحثنا في موضوع وجوده السابق ورأينا أنه قد «أتى» أو «أُرسل»
في مهمة خاصة للفداء. وإذ أتمّ ذلك العمل بنجاح تام، عاد إلى
موطنه السماوي لاسترداد مكانته الأصلية العليا. هذا وعالمنا
الحاضر بما فيه من معالم الشرّ ليس المكان الملائم لوجود الفادي
في حالة مجده الكامل، ولا يمكن أن يصلح عالمنا لإِقامة المسيح
الدائمة إلاّ بعد أن يكون قد تعرّض لعملية تطهير وإعادة
خلق تجعل من العالم الحاضر هذا سماء جديدة وأرضاً جديدة. ثم بما
أنّ السيد المسيح قد جهّز كفّارة فعلية، وأوفى كل المتطلبات
القانونية المترتبة على شعبه، فإنه كان من الضروري أن يضع حياته
في من خصّتهم تلك الكفّارة، وذلك بواسطة عمل الروح
القدس. فالروح القدس هو الذي يجدد نفوس البشر، ويعدّهم إعداداً
كاملاً للوطن السماوي. ولكي ينجز ذلك فإنه يقوم بإنارة ألبابهم
الروحية، وحثّهم وتوجيههم إلى الإِيمان والتوبة، ومِنْ ثمَّ يدفع
بهم في مسيرة مطَّردة نحو التقديس. هذا وإنه بدون قوة
الروح القدس المجددة والخلاّقة يبقى البشر تحت عبء خطاياهم دون
انتفاع بعمل المسيح الخلاصي. ولكن مباشرة الروح القدس لعمله
الجليل هذا تفترض أن تسبقها عودة المسيح المخلّص لمجده الأصلي مع
الآب. لقد قال المسيح لتلاميذه: «خَيْرٌ
لَكُمْ أَنْ أَنْطَلِقَ، لأنَّهُ إِنْ لَمْ أَنْطَلِقْ لا
يَأْتِيكُمُ ٱلْمُعَزِّي، وَلٰكِنْ إِنْ ذَهَبْتُ أُرْسِلُهُ
إِلَيْكُمْ» (يوحنا 16: 7). فالبركة العظيمة الخاصة التي
تنبأ عنها الأنبياء وقالوا إنها من ميزات عصر المسيّا، هي بركة
الروح القدس. أما منح الكنيسة تلك البركة فكان مرتبطاً بصعود
الفادي. لقد تمجّد لكي يمنح التوبة ومغفرة الخطايا، ولكي
يجمع شعبه من كل الأمم وفي كل العصور ليصبح عمله الخلاصي فخراً في
حياة المؤمنين. وكان عرشه السماوي أنسب مكان للكشف عن
كمال عمله الكفّاري.
ومعاملات
اللّه مع البشر في هذا العالم تشتمل على ثلاثة أشكال
متميزة، لكل أقنوم من أقانيم الثالوث الأقدس صلة خاصة بأحدها. في
تدبير اللّه الأبدي كان يوجد ما يمكننا أن ندعوه تقسيم العمل بين
أقانيم اللاهوت، واتِّباع ترتيب معيّن للحوادث. كان عمل الآب في
الخلق والعناية الضابطة لكل شيء. وقد امتدّ عبر حقبة
العهد القديم وحتى ولادة يسوع المسيح في بيت لحم. أما عمل الابن
فقد اختصَّ بعملية الفداء وقد ابتدأ بولادته في بيت لحم واستمر
حتى يوم الخمسين. ففي أثناء ذلك الوقت قام بتجهيز كفارة عملية،
وأنجز كل المطاليب الشرعية عن شعبه، بحيث يمكن أن يُنقلوا
من حالتهم في الخطية والشقاء إلى حالة الخلاص. إنّ عمل الروح
القدس يختص بتطبيق عملية الخلاص الكفارية التي حضّرها الابن،
وترسيخها في حياة المؤمنين، وقد بدأ عمل الروح القدس هذا بشكله
الكامل والواضح في يوم الخمسين عندما تأسست كنيسة العهد
الجديد. ويمتد هذا العمل الخاص للروح القدس حتى النهاية وحتى
اكتمال عملية الخلاص وتجميع الكنيسة.
والنتيجة الثالثة
لارتفاع المسيح هي جلوسه عن يمين اللّه. من هناك يوجّه أمور
ملكوته ويحافظ على نظامه الكامل. ولكي يكون حُكم وساطته
ناجحاً تماماً، كان من الضروري أن يُعطَى حكماً مطلقاً حيث قال: «دُفِعَ إِلَيَّ كُلُّ سُلْطَانٍ فِي ٱلسَّمَاءِ وَعَلَى ٱلأَرْضِ»
(متى 28: 18). هذا ما قاله عندما عهد إلى تلاميذه بتبشير العالم
أجمع، ولقد سجّل الوحي الإلهي على لسان بولس قوله: «لأنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَمْلِكَ حَتَّى يَضَعَ جَمِيعَ ٱلأَعْدَاءِ تَحْتَ قَدَمَيْهِ». ثم قال: «آخِرُ عَدُّوٍ يُبْطَلُ هُوَ ٱلْمَوْتُ» (كورنثوس الأولى 15: 25، 26). وقد أمر المسيح تلاميذه أن يذهبوا «وَيُتَلْمِذُوا جَمِيعَ ٱلأُمَمِ» (متى 28: 19). ويؤكد انتماء تلك الشعوب للإله الحقيقي بواسطة المعمودية «وَعَمِّدُوهُمْ بِٱسْمِ ٱلآبِ وَٱلابْنِ وَٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ»، والرسالة التي يجب أن يتضمنها ذلك التبشير العام هي بالطبع اللّب الحيوي للإنجيل «وَعَلِّمُوهُمْ أَنْ يَحْفَظُوا جَمِيعَ مَا أَوْصَيْتُكُمْ بِهِ» (متى 28: 20). هذا وسنبحث في الموضوع مليّاً عندما ندرس موضوع «المسيح كملك».
والنتيجة الرابعة
والأخيرة لرتفاع المسيح ستكون مجيئه الثاني بقوة ومجد عظيم،
ليكون الديّان للعالم أجمع. فسيظهر حينئذ في جسد قيامته محاطاً
بالملائكة، وسيجلس على عرش مجده. (متى 25: 31). «سَتَنْظُرُهُ كُلُّ عَيْنٍ»
(سفر الرؤيا 1: 7). هذا هو يسوع ذاته الذي حينما كان على الأرض
رفضه شعبه، وحوكم كمجرم أمام محكمة بيلاطس، ودين بظلم
وجلس مع الأثمة. وسينال الناس من شفتي السيد خبر ثوابهم أو عقابهم
النهائي. وحينئذ، إذ يكون عهد وساطته قد تم، وتُوّج بالنجاح
الكامل، فإنه يسلّم الملكوت للآب، ويستعيد علاقته الأصلية بأقنومي
الثالوث الآخرين. ويشترك تماماً بالمجد الذي كان له مع
الآب قبل إنشاء العالم. وسيملك مع الآب والروح القدس إلى الأبد
على المفديين، «وَمَتَى أُخْضِعَ لَهُ
ٱلْكُلُّ، فَحِينَئِذٍ ٱلابْنُ نَفْسُهُ أَيْضاً سَيَخْضَعُ
لِلَّذِي أَخْضَعَ لَهُ ٱلْكُلَّ، كَيْ يَكُونَ ٱللّٰهُ ٱلْكُلَّ
فِي ٱلْكُلِّ» (1 كونثوس 15: 28).
هذا
إذن ما نعنيه بارتفاع المسيح، ويجب أن نعيد إلى ذاكرتنا
أنه لم تكن طبيعة يسوع الإلهية هي التي ارتفعت بل طبيعته البشرية
هي التي ارتفعت، أي أن الإِنسان يسوع المسيح هو الذي أخذ جسد
القيامة وصعد إلى السماء، والذي يشترك في حكم الوساطة، والذي
ستراه كل الشعوب حينما يأتي ثانية إلى العالم في اليوم
الأخير.
اسطفانوسخـادم الرب
-
تاريخ التسجيل : 06/12/2010
عدد المساهمات : 410
شفيعى : الرب يسوع
نقاط : 772
الديانة : مسيحى
رد: تجسد الله
ل السادس: عصمة المسيح
التعرض
لأمر عصمة المسيح وعدم ارتكابه لأي خطأ أو شرّ، وتوافر
كافة مزايا الكمال والطهارة والقداسة في حياته، هو أمر في غاية
الحيوية بالنسبة للعقيدة المسيحية عن المسيح بمجملها. وعصمة
المسيح هي العمود الفقري لصموده النهائي وثبات مؤهلاته لأن يكون
وسيطاً حقيقياً بين اللّه والناس. فلو أنه أخفق ولو في
زلّة واحدة خلال حياته على الأرض لتهدّم كل البناء الذي جاء
لإقامته.
عصمة
المسيح قبل كل شيء هي المحك الأساسي لكون المسيح ذا طبيعة
إلهية. ثم أنها الدليل على أنه كان الإِنسان الصالح الوحيد
الذي بمقدرته، المبنيَّة على الطهارة والكمال، تمكّن من حمل عقاب
الآخرين. إضافة إلى ذلك فإن قيامة المسيح من الموت ما كانت
ممكنة إطلاقاً لو لم يتمتع المسيح بتلك العصمة المطلقة عن
الخطأ. لعل تلك الحقائق هي من أكثر إعلانات الإنجيل نصاعة وجلاء.
ومن
المناسب أن نبدأ في عرض موضوعنا هذا بالنظر إلى أوصاف المسيّا
التي قدَّمتها نبوّات أنبياء وأسفار العهد القديم. فقد كان
من المفروض فيه أن يكون تقيَّ اللّه الذي لم ير فساداً (مزمور
16: 10) وأن يكون عمانوئيل وليد العذراء الذي يعرف «عبد اللّه الذي يعقل الخير» (إشعياء 7: 15، 16)، و «عبد
اللّه الذي يَعْقِلُ، يَتَعَالَى وَيَرْتَقِي وَيَتَسَامَى
جِدّاً... َبِحُبُرِهِ شُفِينَا... وَٱلرَّبُّ وَضَعَ
عَلَيْهِ إِثْمَ جَمِيعِنَا... عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَعْمَلْ
ظُلْماً، وَلَمْ يَكُنْ فِي فَمِهِ غِشٌّ... ٱلْبَارُّ...» (إشعياء 53). من هنا كان يجب على الملاك الذي بشرّ مريم أن يُعرّفها أن المولود منها هو « ٱلْقُدُّوسُ... ٱبْنَ ٱللّٰهِ» (لوقا 1: 35).
ولم
تكن الشهادة لعصمة المسيح في الوحي الإلهي مجرد
تصريحات، بل أنها كانت مدعمة بحقائق ملموسة وظاهرة للعيان،
وموضوعية لدرجة أذهلت من عاصروا المسيح، ولفتت انتباههم. هذا مهم
للغاية، لأن الكثيرين أُخذوا بمعجزات المسيح لدرجة أنهم اعتقدوا
أن ذلك هو السبب الجوهري الوحيد الذي سحر الجموع التي
تبعته وآمنت به. صحيح أنّ الأغلبية الساحقة بين الذين تبعوا
المسيح في مطلع خدمته اجتذبتهم القوة الخارقة التي سيطر فيها على
العوامل الطبيعية، لكن الواقع أن ذلك لم يكن العامل الوحيد
لاجتذاب أي من أتباعه ورسله الذين التصقوا به وكرّسوا حياتهم
لخدمته. لقد كان لأخلاقه لمعان وطهارة، وكان لأسلوب ودوافع
حياته أعظم الأثر وأعمق الوَقْع على هؤلاء، بل لعلّ ذلك هو العامل
وراء حياة الطهارة والقداسة التي مارسها ملايين من المسيحيين عبر
الأجيال.
ولم
تأت الشهادة لعصمة المسيح من ملائكة اللّه والمؤمنين
فحسب، بل أيضاً من بعض أعدائه. مثال ذلك ما ورد على لسان الخائن
يهوذا الذي أسلمه للموت مقابل حفنة نقود. فهو إذ شعر بالندم على
عمله المرذول هذا، ألقى بتلك النقود على الأرض أمام الذين
أعطوها له وقال: «قَدْ أَخْطَأْتُ إِذْ سَلَّمْتُ دَماً بَرِيئ»
(متى 27: 4). ثم أن زوجة الحاكم بيلاطس التي أزعجها منامها، خبر
القبض على يسوع وتسليمه لسلطان زوجها للمحاكمة، قالت لزوجها:
«إِيَّاكَ وَذٰلِكَ ٱلْبَارَّ» (متى 27:
19)، وبيلاطس نفسه، إذ أدرك سمو المسيح وطهارته، وبعد
أن منعه جُبْنه وخوفه من اليهود على مركزه من إطلاق سراح المسيح
قال لهم: «إِنِّي بَرِيءٌ مِنْ دَمِ هٰذَا ٱلْبَارِّ» (متى 27: 24)، أما ذلك المذنب الذي كان أحد الاثنين اللذين صُلبا معه، إذ أدرك براءة وطهارة المسيح، قال: «أَمَّا
نَحْنُ فَبِعَدْلٍ، لأنَّنَا نَنَالُ ٱسْتِحْقَاقَ مَا
فَعَلْنَا، وَأَمَّا هٰذَا فَلَمْ يَفْعَلْ شَيْئاً لَيْسَ فِي
مَحَلِّهِ» (لوقا 23: 41). كما أنّ القائد الروماني
للمجموعة العسكرية التي أشرفت على صلبه، إذ صعقته حقيقة السمو
الأخلاقي والأدبي للمسيح المصلوب، قال: «حَقّاً كَانَ هٰذَا ٱبْنَ ٱللّٰهِ» (متى 27: 54).
لكن
شهادة المؤمنين والرسل لعصمة المسيح لا تقلّ أهمية عن
تصريحات هؤلاء، خاصة وهم مجموعة الناس الذين تقرّبوا إليه
وتعرّفوا على ما قد نسميه بحياته الخاصة. وهم بالطبع أول من تقع
عليه مسؤولية الردّ على ادعاءات المعارضين، ولذلك كان لزاماً
عليهم أن يكونوا الأكثر حرصاً على عدم التورُّط في تصريحات
أو أقوال يستعملها أعداؤهم لمحاولة إثبات ضلالهم. ومع ذلك نجد
أن التردد لم يطرأ على بالهم وهم يؤكدون عصمة سيدهم عن الخطأ،
فقال الرسول بطرس عنه: «أَنْتَ ٱلْمَسِيحُ ٱبْنُ ٱللّٰهِ ٱلْحَي» (يوحنا 6: 69). و «لَمْ يَفْعَلْ خَطِيَّةً، وَلا وُجِدَ فِي فَمِهِ مَكْرٌ» (1بطرس 2: 22)، وقال الرسول يوحنا عنه: «لَيْسَ فِيهِ خَطِيَّةٌ» (1 يوحنا 3: 5). أما كاتب الرسالة إلى العبرانيين فقال: «مُجَرَّبٌ فِي كُلِّ شَيْءٍ مِثْلُنَا (ولكن) بِلا خَطِيَّةٍ» (4: 15)، وقال: «بِرُوحٍ أَزَلِيٍّ قَدَّمَ نَفْسَهُ لِلّٰهِ بِلا عَيْبٍ» (9: 14). ثم يأتي دور الرسول بولس، مضطهد أتباع المسيح، الذي اهتدى بعد ذلك وقال عن المسيح: «لَمْ يَعْرِفْ خَطِيَّةً» (2كورنثوس 5: 21).
ويسجّل
لنا الوحي الإِلهي كيف وضع المسيح نصب عينيه منذ
البداية الطاعة الكاملة والمطلقة لشريعة اللّه، وكيف أنه لم
يتزحزح عن إصراره هذا حتى قاده ذلك إلى الموت (فيلبي 2: . وتدل
تصريحات المسيح نفسها على وعيه الدائم بضرورة القيام دوماً بما
يُرضي اللّه (يوحنا 9: 4). كان يسوع في صراع مستمر ضد
مغريات إبليس الهادفة لإسقاطه وتفشيل مهمته الخلاصية، والواقع أنّ
مواجهته المباشرة مع عدو الخير كانت جزءاً لا يتجزأ من عملية
التحضير لخدمته الجهارية، بل إنها كانت مفتاح تلك الخدمة،
لأنها كانت تمثّل الحاجز الرئيسي الذي كان يجب عبوره قبل البدء
في تلك الخدمة. عندما نقرأ ما دوّنه الوحي الإِلهي بهذا الخصوص
نرى أن محاولات إغراء إبليس ليسوع في البرية كانت مبنيَّة على نفس
عناصر الإغراء التي تعرّض لها أبوانا آدم وحواء (قارن
تكوين 3: 1 - 7 مع لوقا 4: 1 - 13). تلك العناصر تركزت على شهوة
الجسد (الأكل) وشهوة العيون (المنظر الخارجي المغري للأشياء)
وشهوة العظمة الاجتماعية (أي تحسين وضع الفرد ومركزه
الاجتماعي). وبينما الرغبة في أكل ثمرة الشجرة المحرّمة والتمتع
بمظهرها الجميل، والسعي للوصول إلى مركز الإله الخالق (الذي وعدت
الحية حواء به) كانت قد أضعفت صمود حواء وآدم وأسقطتهما في
العصيان، فإن المسيح استطاع، ورغم شدة جوعه بعد أربعين يوماً
من الصوم والضعف الجسدي، أن يردّ إبليس ويقهره بعد كل هجوم. لم
يثبت آدم وحواء في كلمة اللّه ومواعيده، وصدّقا تشكيك الشيطان في
صدقها. أما يسوع فكان متسلحاً بكلمة الحق الموحى بها من
اللّه، التي بواسطتها صدّ كل تيارات الهجوم الشيطانية. عندما عاود
إبليس الكرَّة الهجومية محاولاً إغراء يسوع عن تكميل مهمته
الخلاصية، كان يسوع واعياً لذلك، ووقف له بالمرصاد. وقد أخبر
يسوع تلاميذه بذلك قائلاً: «... رَئِيسَ هٰذَا ٱلْعَالَمِ (أي الشيطان) يَأْتِي وَلَيْسَ لَهُ فِيَّ شَيْءٌ» (يوحنا 14: 30).
ولعل
أبرز وأعظم ما ورد في الوحي الإِلهي من أدلّة على عصمة
يسوع عن الخطأ، ما قاله هو في مواجهته للقيادات اليهودية الدينية
التي بنَتْ حياتها على تقوى خارجية زائفة مفعمة بالرياء. فبعد أن
قال لهم إنهم ينتسبون إلى إبليس الكذَّاب والقتّال، وإنهم
ينفذون شهواته الشريرة، نراه يتحداهم مشيراً لعصمته، وإلى تلك
الهُوَّة الأخلاقية والروحية الساحقة التي تفصله عنهم، فيقول: «مَنْ مِنْكُمْ (يستطيع أن) يُبَكِّتُنِي عَلَى خَطِيَّةٍ؟»
(يوحنا 8: 46). والمسيح هنا لم يكن يقصد التمييز بين
كماله وعصمته، وبين شرّ وفساد ورياء هؤلاء القادة فحسب، بل أنه
طرح وبدون تردد حقيقة تميُّزه عن كافة الجنس البشري، بذلك الكمال
وتلك العصمة.
صحيح
أن يسوع في تجسُّده خضع لكافة مغريات وتجارب السقوط في
العصيان التي يتعرض لها البشر، لكنه هو وحده لم يسقط، وهو وحده لم
يكن من الممكن أن يفشل. لقد كان من المستحيل أن يرتكب خطية، لأنه
وهو في طبيعة بشرية محدودة كان لا يزال يتمتع بطبيعة إلهية.
والله لا يمكن أن يرتكب خطأ. هذا أمر جوهري للغاية بالنسبة
لتأهله لأن يأخذ على عاتقه تلك المهمة الخلاصية الهامة التي
حملها. من هنا كان لعصمته وكماله حق تحمُّل نتيجة خطية عدد لا
يُحصى من بني البشر. من هنا أيضاً مثَّل انتصاره على الموت،
الانتصار على الخطية التي تقودهم إلى الموت وبالتالي تأمين
الحياة الأدبية الأكيدة لهم، وليس مجرد الوفاء بمتطلبات العدالة
الإلهية بالنيابة عنهم. (راجع 1 كورنثوس 15: 51 - 58).
التعرض
لأمر عصمة المسيح وعدم ارتكابه لأي خطأ أو شرّ، وتوافر
كافة مزايا الكمال والطهارة والقداسة في حياته، هو أمر في غاية
الحيوية بالنسبة للعقيدة المسيحية عن المسيح بمجملها. وعصمة
المسيح هي العمود الفقري لصموده النهائي وثبات مؤهلاته لأن يكون
وسيطاً حقيقياً بين اللّه والناس. فلو أنه أخفق ولو في
زلّة واحدة خلال حياته على الأرض لتهدّم كل البناء الذي جاء
لإقامته.
عصمة
المسيح قبل كل شيء هي المحك الأساسي لكون المسيح ذا طبيعة
إلهية. ثم أنها الدليل على أنه كان الإِنسان الصالح الوحيد
الذي بمقدرته، المبنيَّة على الطهارة والكمال، تمكّن من حمل عقاب
الآخرين. إضافة إلى ذلك فإن قيامة المسيح من الموت ما كانت
ممكنة إطلاقاً لو لم يتمتع المسيح بتلك العصمة المطلقة عن
الخطأ. لعل تلك الحقائق هي من أكثر إعلانات الإنجيل نصاعة وجلاء.
ومن
المناسب أن نبدأ في عرض موضوعنا هذا بالنظر إلى أوصاف المسيّا
التي قدَّمتها نبوّات أنبياء وأسفار العهد القديم. فقد كان
من المفروض فيه أن يكون تقيَّ اللّه الذي لم ير فساداً (مزمور
16: 10) وأن يكون عمانوئيل وليد العذراء الذي يعرف «عبد اللّه الذي يعقل الخير» (إشعياء 7: 15، 16)، و «عبد
اللّه الذي يَعْقِلُ، يَتَعَالَى وَيَرْتَقِي وَيَتَسَامَى
جِدّاً... َبِحُبُرِهِ شُفِينَا... وَٱلرَّبُّ وَضَعَ
عَلَيْهِ إِثْمَ جَمِيعِنَا... عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَعْمَلْ
ظُلْماً، وَلَمْ يَكُنْ فِي فَمِهِ غِشٌّ... ٱلْبَارُّ...» (إشعياء 53). من هنا كان يجب على الملاك الذي بشرّ مريم أن يُعرّفها أن المولود منها هو « ٱلْقُدُّوسُ... ٱبْنَ ٱللّٰهِ» (لوقا 1: 35).
ولم
تكن الشهادة لعصمة المسيح في الوحي الإلهي مجرد
تصريحات، بل أنها كانت مدعمة بحقائق ملموسة وظاهرة للعيان،
وموضوعية لدرجة أذهلت من عاصروا المسيح، ولفتت انتباههم. هذا مهم
للغاية، لأن الكثيرين أُخذوا بمعجزات المسيح لدرجة أنهم اعتقدوا
أن ذلك هو السبب الجوهري الوحيد الذي سحر الجموع التي
تبعته وآمنت به. صحيح أنّ الأغلبية الساحقة بين الذين تبعوا
المسيح في مطلع خدمته اجتذبتهم القوة الخارقة التي سيطر فيها على
العوامل الطبيعية، لكن الواقع أن ذلك لم يكن العامل الوحيد
لاجتذاب أي من أتباعه ورسله الذين التصقوا به وكرّسوا حياتهم
لخدمته. لقد كان لأخلاقه لمعان وطهارة، وكان لأسلوب ودوافع
حياته أعظم الأثر وأعمق الوَقْع على هؤلاء، بل لعلّ ذلك هو العامل
وراء حياة الطهارة والقداسة التي مارسها ملايين من المسيحيين عبر
الأجيال.
ولم
تأت الشهادة لعصمة المسيح من ملائكة اللّه والمؤمنين
فحسب، بل أيضاً من بعض أعدائه. مثال ذلك ما ورد على لسان الخائن
يهوذا الذي أسلمه للموت مقابل حفنة نقود. فهو إذ شعر بالندم على
عمله المرذول هذا، ألقى بتلك النقود على الأرض أمام الذين
أعطوها له وقال: «قَدْ أَخْطَأْتُ إِذْ سَلَّمْتُ دَماً بَرِيئ»
(متى 27: 4). ثم أن زوجة الحاكم بيلاطس التي أزعجها منامها، خبر
القبض على يسوع وتسليمه لسلطان زوجها للمحاكمة، قالت لزوجها:
«إِيَّاكَ وَذٰلِكَ ٱلْبَارَّ» (متى 27:
19)، وبيلاطس نفسه، إذ أدرك سمو المسيح وطهارته، وبعد
أن منعه جُبْنه وخوفه من اليهود على مركزه من إطلاق سراح المسيح
قال لهم: «إِنِّي بَرِيءٌ مِنْ دَمِ هٰذَا ٱلْبَارِّ» (متى 27: 24)، أما ذلك المذنب الذي كان أحد الاثنين اللذين صُلبا معه، إذ أدرك براءة وطهارة المسيح، قال: «أَمَّا
نَحْنُ فَبِعَدْلٍ، لأنَّنَا نَنَالُ ٱسْتِحْقَاقَ مَا
فَعَلْنَا، وَأَمَّا هٰذَا فَلَمْ يَفْعَلْ شَيْئاً لَيْسَ فِي
مَحَلِّهِ» (لوقا 23: 41). كما أنّ القائد الروماني
للمجموعة العسكرية التي أشرفت على صلبه، إذ صعقته حقيقة السمو
الأخلاقي والأدبي للمسيح المصلوب، قال: «حَقّاً كَانَ هٰذَا ٱبْنَ ٱللّٰهِ» (متى 27: 54).
لكن
شهادة المؤمنين والرسل لعصمة المسيح لا تقلّ أهمية عن
تصريحات هؤلاء، خاصة وهم مجموعة الناس الذين تقرّبوا إليه
وتعرّفوا على ما قد نسميه بحياته الخاصة. وهم بالطبع أول من تقع
عليه مسؤولية الردّ على ادعاءات المعارضين، ولذلك كان لزاماً
عليهم أن يكونوا الأكثر حرصاً على عدم التورُّط في تصريحات
أو أقوال يستعملها أعداؤهم لمحاولة إثبات ضلالهم. ومع ذلك نجد
أن التردد لم يطرأ على بالهم وهم يؤكدون عصمة سيدهم عن الخطأ،
فقال الرسول بطرس عنه: «أَنْتَ ٱلْمَسِيحُ ٱبْنُ ٱللّٰهِ ٱلْحَي» (يوحنا 6: 69). و «لَمْ يَفْعَلْ خَطِيَّةً، وَلا وُجِدَ فِي فَمِهِ مَكْرٌ» (1بطرس 2: 22)، وقال الرسول يوحنا عنه: «لَيْسَ فِيهِ خَطِيَّةٌ» (1 يوحنا 3: 5). أما كاتب الرسالة إلى العبرانيين فقال: «مُجَرَّبٌ فِي كُلِّ شَيْءٍ مِثْلُنَا (ولكن) بِلا خَطِيَّةٍ» (4: 15)، وقال: «بِرُوحٍ أَزَلِيٍّ قَدَّمَ نَفْسَهُ لِلّٰهِ بِلا عَيْبٍ» (9: 14). ثم يأتي دور الرسول بولس، مضطهد أتباع المسيح، الذي اهتدى بعد ذلك وقال عن المسيح: «لَمْ يَعْرِفْ خَطِيَّةً» (2كورنثوس 5: 21).
ويسجّل
لنا الوحي الإِلهي كيف وضع المسيح نصب عينيه منذ
البداية الطاعة الكاملة والمطلقة لشريعة اللّه، وكيف أنه لم
يتزحزح عن إصراره هذا حتى قاده ذلك إلى الموت (فيلبي 2: . وتدل
تصريحات المسيح نفسها على وعيه الدائم بضرورة القيام دوماً بما
يُرضي اللّه (يوحنا 9: 4). كان يسوع في صراع مستمر ضد
مغريات إبليس الهادفة لإسقاطه وتفشيل مهمته الخلاصية، والواقع أنّ
مواجهته المباشرة مع عدو الخير كانت جزءاً لا يتجزأ من عملية
التحضير لخدمته الجهارية، بل إنها كانت مفتاح تلك الخدمة،
لأنها كانت تمثّل الحاجز الرئيسي الذي كان يجب عبوره قبل البدء
في تلك الخدمة. عندما نقرأ ما دوّنه الوحي الإِلهي بهذا الخصوص
نرى أن محاولات إغراء إبليس ليسوع في البرية كانت مبنيَّة على نفس
عناصر الإغراء التي تعرّض لها أبوانا آدم وحواء (قارن
تكوين 3: 1 - 7 مع لوقا 4: 1 - 13). تلك العناصر تركزت على شهوة
الجسد (الأكل) وشهوة العيون (المنظر الخارجي المغري للأشياء)
وشهوة العظمة الاجتماعية (أي تحسين وضع الفرد ومركزه
الاجتماعي). وبينما الرغبة في أكل ثمرة الشجرة المحرّمة والتمتع
بمظهرها الجميل، والسعي للوصول إلى مركز الإله الخالق (الذي وعدت
الحية حواء به) كانت قد أضعفت صمود حواء وآدم وأسقطتهما في
العصيان، فإن المسيح استطاع، ورغم شدة جوعه بعد أربعين يوماً
من الصوم والضعف الجسدي، أن يردّ إبليس ويقهره بعد كل هجوم. لم
يثبت آدم وحواء في كلمة اللّه ومواعيده، وصدّقا تشكيك الشيطان في
صدقها. أما يسوع فكان متسلحاً بكلمة الحق الموحى بها من
اللّه، التي بواسطتها صدّ كل تيارات الهجوم الشيطانية. عندما عاود
إبليس الكرَّة الهجومية محاولاً إغراء يسوع عن تكميل مهمته
الخلاصية، كان يسوع واعياً لذلك، ووقف له بالمرصاد. وقد أخبر
يسوع تلاميذه بذلك قائلاً: «... رَئِيسَ هٰذَا ٱلْعَالَمِ (أي الشيطان) يَأْتِي وَلَيْسَ لَهُ فِيَّ شَيْءٌ» (يوحنا 14: 30).
ولعل
أبرز وأعظم ما ورد في الوحي الإِلهي من أدلّة على عصمة
يسوع عن الخطأ، ما قاله هو في مواجهته للقيادات اليهودية الدينية
التي بنَتْ حياتها على تقوى خارجية زائفة مفعمة بالرياء. فبعد أن
قال لهم إنهم ينتسبون إلى إبليس الكذَّاب والقتّال، وإنهم
ينفذون شهواته الشريرة، نراه يتحداهم مشيراً لعصمته، وإلى تلك
الهُوَّة الأخلاقية والروحية الساحقة التي تفصله عنهم، فيقول: «مَنْ مِنْكُمْ (يستطيع أن) يُبَكِّتُنِي عَلَى خَطِيَّةٍ؟»
(يوحنا 8: 46). والمسيح هنا لم يكن يقصد التمييز بين
كماله وعصمته، وبين شرّ وفساد ورياء هؤلاء القادة فحسب، بل أنه
طرح وبدون تردد حقيقة تميُّزه عن كافة الجنس البشري، بذلك الكمال
وتلك العصمة.
صحيح
أن يسوع في تجسُّده خضع لكافة مغريات وتجارب السقوط في
العصيان التي يتعرض لها البشر، لكنه هو وحده لم يسقط، وهو وحده لم
يكن من الممكن أن يفشل. لقد كان من المستحيل أن يرتكب خطية، لأنه
وهو في طبيعة بشرية محدودة كان لا يزال يتمتع بطبيعة إلهية.
والله لا يمكن أن يرتكب خطأ. هذا أمر جوهري للغاية بالنسبة
لتأهله لأن يأخذ على عاتقه تلك المهمة الخلاصية الهامة التي
حملها. من هنا كان لعصمته وكماله حق تحمُّل نتيجة خطية عدد لا
يُحصى من بني البشر. من هنا أيضاً مثَّل انتصاره على الموت،
الانتصار على الخطية التي تقودهم إلى الموت وبالتالي تأمين
الحياة الأدبية الأكيدة لهم، وليس مجرد الوفاء بمتطلبات العدالة
الإلهية بالنيابة عنهم. (راجع 1 كورنثوس 15: 51 - 58).
اسطفانوسخـادم الرب
-
تاريخ التسجيل : 06/12/2010
عدد المساهمات : 410
شفيعى : الرب يسوع
نقاط : 772
الديانة : مسيحى
مـنـتـديـات الـمســيح هــو الله :: † المنتديات الحياة المسيحية † :: منتدى الاسئلة الاهوتية و العقائدية المسيحية
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى